في بلد، اعتاد أصوات القذائف والرصاص، وأصبحت الصراعات والحروب تدخل روتين يومه، يعمد عند كل استحقاق ديمقراطي إلى اطلاق لقب “المعركة”، التي تعتبر الأطراف “المتنازعة” فيها، أنه لا بدّ أن من “الإقصاء” لتحقيق “الإنتصار”.
في الوقت الذي خاض “الشارع الإسلامي” الانتخابات في جبل لبنان بهدوء، بعيداً عن المناكفات والتحديات، كان الشارع المسيحي يشتعل بحروب الخطاب والخطاب المضاد.
على صعيد القوى الشيعية، المتمثلة بالثنائي حركة “أمل” و”حزب الله”، لم يصعد خطاب الانتخابات إلى المنابر سوى تحت صيغة “القرار للعائلات”، وعملوا على تشكيل لوائح مشتركة “التنمية والوفاء”، وإنجاح عدة بلديات بالتزكية، كي لا يحوّلوا هذه المعركة الانتخابية إلى عملية “استفتاء شعبي” ظاهرة، سابقة لأوانها، وليست في محلها، لأن الاستفتاء الحقيقي، مؤجل، إلى جولة الجنوب في 24 أيار.
أما الشارع السني، فكانت الانتخابات فيه “عرساً ديمقراطياً”، في ظل غياب القيادة السياسية المؤثرة، حيث كانت المعركة “عائلية” بإمتياز، وإن كان بعض المرشحين من خلفية سياسية، إلا أن الرافعة الأساسية لكل لائحة، كانت عائلية بالدرجة الأولى.
وفي الشارع الدرزي، لم تُخفِ فيه القيادات الدرزية دورها في العملية الانتخابية، إلا أنها عملت على تشكيل تحالفات في ما بينها، لضمان سريان الانتخابات بشكل سلس، ومن دون أي عوائق وخلافات، خصوصاً أن الوضع الدرزي لا يحتمل أي “شقاق” محتمل.
أما في الشارع المسيحي، فقد كان المشهد مختلفاً جداً، في المعركة الأولى من حرب “البلديات”، التي جرت على أرض الجبل، حيث برز عرض “العضلات” بعد الساعة الثامنة مساءً، مع بداية ظهور النتائج الأولية لعملية الاقتراع، لدى قيادات الأحزاب المسيحية المتمثلة بـ”القوات اللبنانية” و”الكتائب” و”التيار الوطني الحر”، الذين أعلنوا النفير العام عبر نوابهم ومنسّقيهم منذ لحظة فتح باب الإقتراع وحتى ساعات الليل الأخيرة.
في المقابل، تمكّنت بعض الأسماء المدعومة من نواب مسيحيين، إمّا منشقين عن أحزابهم السابقة، آلان عون وابراهيم كنعان، أو نواب مستقلين، من تسجيل انتصارات وإحداث خرق في لوائح الأحزاب المسيحية التقليدية في مناطق عدة، من الشوف وعاليه إلى الضاحية الجنوبية مروراً بضبيه وجونية ووصولاً إلى كسروان.
إلا أن رياح النتائج لم تأتِ كما اشتهت سفن الأحزاب المسيحية.
لا يمكن القفز فوق أهمية محافظة جبل لبنان في الوجدان المسيحي، حيث تعتبر مرتعهم ونقطة قوة بالنسبة لهم، وهي “الدولة الأولى” التي انتموا إليها تاريخياً، لذا تتسم بطابع ذو أهمية كبرى، وتحتدم فيها المعركة على الشكل التالي:
“التيار” دخل المعركة الانتخابية مضعضعاً بسبب الانقسامات الداخلية التي أضعفت حضوره وشتّتت قاعدته، وهو خارج السلطة الحالية رئاسياً وحكومياًُ، مما وضعه أمام اختبار حقيقي لقاعدته الشعبية، لذا كان عليه أن يحقق انتصاراً يؤمّن ارتياحاً ظاهرياً لجمهوره الذي يشعر بقلق وخوف من الإقصاء والإلغاء من خصومه.
“القوات اللبنانية” تعمل على استغلال “تضعضع” “التيار” للتمدد، واضعة نصب أعينها السيطرة على البلديات، تمهيداً للانتخابات النيابية المزمع اجراؤها في أيار 2026، وعملت بشكل واضح على إبرام تحالفات مع الأطراف الأخرى في سبيل إقصاء “التيار الوطني الحر”، لتحقيق “انتصار” نيابي يكون وليد “الانتصار” البلدي والاختياري، ولو أن “التيار” تمكن من خرق “القوات” اختيارياً في معقلها في معراب.
“الكتائب” تعمل على خوض معركة “أكبر من حجمها التمثيلي”، بالسير خلف “القوات اللبنانية”، طالما أن الهدف واحد “إقصاء التيار”.
إلا أن الهدف المشترك بين الجميع، استغلال معركة البلديات لـ”إثبات الحضور”، على قاعدة “بيّي أقوى من بيّك”، حيث تحاول كل قوة إثبات حجم شعبيتها، من خلال الانتخابات البلدية.
كل تلك المحاولات باءت بالفشل للأسباب التالية:
– لم يتمكن أي طرف من القوى السياسية المسيحية، من إحداث “انتصار” حقيقي في المعركة البلدية، والمقعد الإضافي الذي حصلوا عليه في بلدة، خسروه في أخرى.
– لا يمكن الإعتماد على الانتخابات البلدية كمعيار في تحديد الشعبية، حيث أنها تعتمد على الاعتبارات العائلية أكثر منها على الاعتبارات السياسية والحزبية.
– اللوائح السابقة، والتي عادت وترشحت من جديد، إذا ما كانت قد كسبت الثقة عبر الخدمات الإنمائية، سيكون من الصعب خرقها، كما حصل في بلدية الحدت، بعيداً عن الانتماء السياسي للمرشحين.
أضف إلى ذلك، “العراضات” التي قامت بها الأحزاب السياسية عقب إعلان النتائج، كانت أشبه بفقاعات هواء، حيث أعلنت العديد من اللوائح التي زعمت بعض القيادات دعمها، أنها غير تابعة لأحد.. وبالتالي عرّت من تبناها أمام جمهورها.. وعلى أرضها!
رغم كل الحقن السياسي الذي أتى على هيئة تأجيج للخطاب الطائفي، إلا أن نتائج الانتخابات البلدية تشكل رسالة حقيقية للقوى المسيحية، أن “لا تتسرعوا بالتباهي بحجم التمثيل.. الحقيقة لم تأتِ بعد”!
نسخ الرابط :