غازي العريضي*
انشغل كثيرون في الداخل الإسرائيلي، وفي عواصم عربية، بزيارة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الولايات المتحدة، وبلقائه الرئيس دونالد ترامب، وما أعلنه الأخير من مواقف مباشرة على الهواء. قالوا: "ترامب أهان نتنياهو"، "أذلّه"، "فاجأه"، خصوصاً عندما أعلن: "نُجري محادثات مع إيران، وقد بدأت، وستستمرّ حتى السبت"، "قلت لرئيس الوزراء بيبي: إذا كانت لديك مشكلة مع تركيا أعتقد جازماً أنني سأكون قادراً على حلّها. أنت تعلم، لدّي علاقة جيدة مع تركيا ورئيسها، وقلت لأردوغان: تهانيَّ لك. لقد فعلت ما لم يستطع أحد فعله خلال ألفي عام. لقد سيطرت على سورية بأسماء مختلفة، لكن الأمر سيّان".
يريد نتنياهو التقاط الفرصة والتخلّص من إيران وسلاحها ونظامها ودورها، استكمالاً لما فعله ويفعله، في لبنان وغزّة وسورية
عنصر المفاجأة صحيح. هذا هو ترامب، هذا هو أسلوبه، لكنّ ذلك لا يعني أن ثمّة شيئاً جديداً في الجوهر، أو أن ثمّة مشكلة حقيقية بين الإدارة الأميركية وإسرائيل، فالمعلومات عن الحوارات غير المباشرة بين الإيرانيين والأميركيين لم تكن سرّيةً، ما كان يجري في عُمان كانت إسرائيل تعلم به، لكنّ نتنياهو يستعجل ضرب إيران ومنشآتها النووية. أمّا ترامب فيريد حلّاً بالضغوطات والحصار، واستخدام الأساليب كلّها ليصل إلى الهدف المشترك: إيران لن تكون دولةً نوويةً، الدولة النووية الوحيدة في المنطقة هي إسرائيل. منذ أيّام، عُقد اجتماع إيراني أميركي في عُمان، وكانت مصافحة بين رئيسَي الوفدَين، وسوف يستمرّ التفاوض، وترامب يريد اتفاقاً خلال مدّة أقصاها ثلاثة أشهر، ولا يتردّد في إعلان موقفه. إذا "أرادت إيران الاتفاق هذا جيّد، وإذا رفضت ستتعرّض لقصف لا مثيل له وستشارك فيه إسرائيل". نتنياهو يريد التقاط الفرصة، والتخلّص من إيران وسلاحها ونظامها ودورها، استكمالاً لما فعله ويفعله، في لبنان وغزّة وسورية.
وبالنسبة إلى تركيا، لا جديد أيضاً في الموقف الأميركي. أميركا تحافظ على علاقة جيّدة مع تركيا، تختلف معها حول عدد من الأمور، لكنّها تعرف الاستفادة من موقعها الجيوسياسي في المنطقة من دون أن يكون ذلك على حساب إسرائيل. المشكلة أن إسرائيل تريد أيضاً الاستفادة من نتائج حربها على لبنان وغزّة، ومن سقوط النظام السوري السابق واستباحتها الأجواء والأراضي السورية، لتكون الدولة الوحيدة المتحكّمة بمفاصل اللعبة في المنطقة. أمّا بالنسبة إلى القضية الأهمّ لنتنياهو وترامب فلا خلاف حولها، وهي التي يجب أن تبقى القضية الأمّ والأهمّ بالنسبة إلى العرب. نتنياهو يريد احتلال غزّة وتهجير الفلسطينيين، وترامب قال أمام ضيفه: "سنسمّي غزّة منطقة الحرية بعد نقل السكّان منها"، كأن أهل غزّة يحتلّون أرض غيرهم ويريد ترامب تحريرها منهم. في الواقع، يريد ترامب مصادرتها في عملية لا مثيل لها في التاريخ، وهذه أكبر خدمة لإسرائيل ولنتنياهو وأمثاله. هنا يقع الخطر على مصر والأردن.
تناولت الأسبوع الفائت المخاطر المحدقة بمصر، واليوم أشير إلى أنه أثناء انعقاد قمّة ترامب - نتنياهو في البيت الأبيض، كانت قمّة فرنسية مصرية تعقد في القاهرة بين الرئيسين ماكرون والسيسي. ماكرون طرح مواقف متقدّمة جدّاً: "غزّة ليست قضية عقارية، هي أرض فيها مليونا فلسطيني"، "لا لتهجير أهلها"، نعم لـ"حلّ الدولتَين"، "قد نعترف في حزيران (يونيو) المقبل بالدولة الفلسطينية"، وأعلن عن عقد قيمته 7.2 مليارات يورو لمشروع يتعلّق بالهيدروجين الأخضر.
المعلومات عن الحوارات غير المباشرة بين الإيرانيين والأميركيين لم تكن سرّيةً، وما كان يجري في عُمان كانت إسرائيل تعلم به
دعا الملك عبد الله الثاني إلى القمّة فأصبحت قمّةً ثلاثيةً. أجرى أركانها اتصالاً هاتفياً مع ترامب. كانت كلمتهم واحدة: "لا للتهجير. نعم للحلّ السياسي"، "نعم لدولة فلسطينية"، "ما تفكّر به يا سيادة الرئيس لن يؤدّي إلى استقرار في غزّة وإسرائيل"، "الأفق الوحيد للحلّ هو الأفق السياسي وليس أفقاً عقارياً". لم تكن أي إشارة مشجّعة من ترامب. لا يزال على موقفه وتصلّبه، وبناءً عليه وسّع جيش الاحتلال هجومه على غزّة وصولاً إلى رفح، في إطار خطّة وضع اليد على القطاع كلّه، وتهجير سكّانه. أميركا تكره فرنسا وأوروبا، ويريد ترامب معاقبتهما، وإسرائيل تشجّع هذه السياسة، ولذلك لا تأثيرَ فعلياً لكلام ماكرون عنده. استمرّ الهجوم على غزّة والضفة وتهجير الفلسطينيين. هذا هو الخطر الأساس، ولن تتوقّف الضغوطات على مصر والأردن الجارتَين. لكن أهداف المخطّط الاسرائيلي تتجاوزهما لتصل إلى الدول العربية كلّها.
أيّ تفكير عربي خارج هذه القراءة هو قصور فكري وسياسي، وهروب إلى الأمام من مواجهة الحقيقة، ولن ينجو من نتائجه أحد. إسرائيل تستبيح كلّ شيء، ترامب يدعمها، يطلق يدها، والعرب واهمون. بعضهم يقنع نفسه بأنه يلعب دوراً، ويقوم بوساطات، ويحتلّ "مكانةً عالميةً بارزةً"، وهو عملياً يدير علاقات ومشاريعَ الآخرين، ويسوّق مطالب ترهيبهم وترغيبهم لمصر. ومنهم من يرى أن ليس ثمّة بديل للمشروع الإسرائيلي، وجميعهم عاجزون عن إدخال شاحنة مواد غذائية إلى غزّة، التي تُرتَكب فيها إبادة جماعية حقيقية لا توصف. المرحلة لا تحتمل مكابرات، ثمّة دول ثلاث تمسك بمفاصل القرار واللعب في الأرض العربية، إسرائيل وتركيا وإيران، تُقرّر مصير العرب والعرب غير فاعلين، فكيف إذا نجحت المفاوضات الإيرانية الأميركية اليوم، وثبّت ترامب العلاقات الاستثنائية مع تركيا، ومشروع إسرائيل الكبرى، وأطلق يدها في تهجير الفلسطينيين؟
*وزير ونائب سابق
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :