كتبت أورنيلا سكر
في مثل هذا الوقت من كل عام، تعود ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية لتُوقظ في الضمير اللبناني والعربي جراحًا لم تندمل، وذاكرة مثقلة بالخوف والانقسام والدماء التي سالت على أرض وطنٍ لم يعرف السلم إلا كهدنة هشّة. لكنها في الوقت ذاته، فرصة تاريخية لمساءلة النفس، واستعادة المعنى الإنساني والسياسي العميق الذي افتقده اللبنانيون طويلاً: معنى الوطن كفضاء جامع للكرامة، لا ميدانًا للصراع الطائفي، ولا ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.
تأتي هذه الذكرى هذا العام على ضوء وثيقة الأخوة الإنسانية، التي وقّعها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وقداسة البابا فرنسيس عام 2019، والتي دعت إلى إعلاء كرامة الإنسان، ونبذ العنف الديني، والتأكيد على أن الأديان خُلقت لخدمة السلام، لا لتبرير الصراع. ولكن، ما معنى هذه الوثيقة في السياق اللبناني؟ وهل يمكن أن تكون منطلقًا لصياغة خطاب ديني وسياسي جديد في بلدٍ تتقاطع فيه الأديان والطوائف والمرجعيات؟
الجواب يبدأ من تنقية الذاكرة الجماعية.
فلبنان، رغم ما يملكه من تنوّع ديني وثقافي، لم يُنجز حتى اليوم مصالحة حقيقية مع ذاكرته. ما زال الماضي حاضرًا في الطائفية السياسية، في المناهج التربوية، في الخوف المتبادل، وفي سرديات كل طائفة عن الحرب. لم يتم الاعتراف المتبادل بالأخطاء، ولم تُحاكَم الذاكرة، ولا جرى بناء سردية وطنية جامعة، تضع كرامة الإنسان فوق كل انتماء.
وهنا بالضبط، تبرز الحاجة إلى خطاب جديد:
خطاب لا يتعامل مع الدين كأداة للهيمنة، بل كمنصة لبناء الجسور؛
خطاب لا يكتفي بندب الماضي، بل يُجرؤ على تفكيكه؛
خطاب يُعلن بوضوح أن كرامة الإنسان وحقه في تقرير مصيره، في عقيدته، في لغته، في هويته، مقدسة وغير قابلة للمساومة.
إن وثيقة الأخوة الإنسانية ليست نصًا دينيًا فحسب، بل مشروعًا أخلاقيًا وسياسيًا، يُمكن للبنان أن يستلهمه كمنطلق للخروج من أَسْر الخطابات الطائفية، ولإعادة بناء معنى التعايش، ليس كحالة اضطرار، بل كقناعة روحية ومدنية.
لكن هذا لن يتحقق إلا بشروط ثلاثة:
نقد صريح للذاكرة الجماعية الطائفية، وتجريم استخدام الدين في العنف والتحريض.
إصلاح ديني شجاع يُعيد تأويل النصوص ويحرّرها من منطق التفوق والانغلاق.
إرادة سياسية جديدة، تؤمن أن المواطن هو الأساس، لا الطائفة، وأن وحدة لبنان لا تُبنى على التسويات، بل على المصارحة الحقيقية.
إن ذكرى الحرب الأهلية يجب ألا تكون مناسبة للحداد فقط، بل لبدء مشروع وطني يقوم على التسامح الحقيقي لا التسامح المجازي، وعلى بناء دولة ترتكز على العدالة والاعتراف المتبادل والكرامة الإنسانية.
ولعل لبنان، بكل ما يحمله من آلام وأمل، يكون النموذج الذي يُبرهن أن الذاكرة، مهما كانت مؤلمة، يمكن أن تتحول إلى قوة للشفاء، إذا ما اقترنت بالشجاعة والضمير.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :