هل أنقذت "أسيل" و "آدم" موسم التزلج وكميّات المياه الجوفيّة؟

هل أنقذت

 

Telegram

 

 

في قلب البحر الأبيض المتوسط، يقف لبنان على خط المواجهة مع الطبيعة، حيث تتحوّل فصوله من نقيض إلى آخر، بين صيفٍ لاهبٍ وشتاءٍ تزداد فيه العواصف عنفاً. البلاد التي كانت تُعرف بتوازن مناخها المعتدل، باتت اليوم تشهد ظواهر متطرفة تُهدد بيئتها وسكانها، مع اشتداد موجات الجفاف صيفاً، وارتفاع منسوب العواصف شتاءً، في مشهد يعكس صورة قاتمة عن مستقبل الأمن المائي والمناخي.

 

ففي العقود الأخيرة، لم يكن التغيّر المناخي مجرد رقم في تقارير علمية، بل أصبح واقعاً ملموساً ينعكس على شحّ المياه، واندلاع الحرائق، والتفاوت الحراري الحاد بين الساحل والجبل. اذ ارتفعت درجات الحرارة بمعدل يفوق المتوسط العالمي، وانخفضت المتساقطات لتترك آثارها الواضحة على خزّانات المياه الجوفية، والزراعة، وحتى على الأمن الغذائي. هذه التحولات ليست مجرد ظواهر معزولة، بل مؤشرات على تصاعد المخاطر الطبيعية التي تجعل من لبنان بيئة أكثر هشاشة أمام تداعيات الاحتباس الحراري.

 

من جهة أخرى، ومع ازدياد الكثافة السكانية واستنزاف الموارد الطبيعية، يصبح السؤال الأهم: هل يملك لبنان القدرة على مواجهة هذه التحديات؟ موقعه في مؤشرات التأقلم العالمية يعكس صورة مقلقة، حيث تتأرجح الدولة بين ضعف الاستعداد وضرورة التكيّف، في ظل بنية تحتية لا تزال غير قادرة على استيعاب تداعيات السيول والقحط، أو حتى الحرائق الموسمية التي تلتهم الأحراج كل عام.

 

في جميع الأحوال، بين أزمة المياه وخطر العواصف وتآكل الموارد الطبيعية، يجد لبنان نفسه أمام معركة مفتوحة مع المناخ، معركة لا تُحسم فقط بالمساعدات الطارئة، بل تتطلب رؤية استراتيجية تضع البيئة في صلب السياسات العامة، وتوازن بين حماية الموارد واستدامة العيش، في ظل واقعٍ مناخي متحوّل. فهل ينجح لبنان في التكيّف، أم أنّه يسير نحو مستقبل يزداد فيه العطش وتتصاعد فيه الكوارث؟

 

 

 

التغيّر الكبير في اختلاف درجات

 

 

 

 الحرارة بين الصيف والشتاء

 

يوضح أستاذ الجغرافية والعميد السابق لكلية الآداب وعضو المجلس الوطني للبحوث العلمية ومؤلف أطلس لبنان الدكتور علي فاعور لـ "الديار" أن "لبنان قد عرف ارتفاعاً سنوياً في متوسط ​​درجات الحرارة بمقدار 0.3 درجة مئوية لكل عقد منذ عام 1970، وهذا ما يفوق المتوسط ​​العالمي البالغ 0.15 درجة مئوية (بحسب البنك الدولي، 2021). وقد لوحظت زيادات أعلى في درجات الحرارة في الصيف (صيف حار وجاف)، حيث وصلت الحرارة الى مستوى 35-40 درجة مئوية في المدن والمناطق الساحلية، أثناء شهري تموز وآب 2024. يقابلها انخفاض كبير في درجات الحرارة خلال فصل الشتاء، حيث وصل انخفاض الحرارة الى ما دون 4 درجات في المدن والمناطق الساحلية. بينما يلاحظ انتشار موجات الصقيع وانخفاض الحرارة في المناطق الجبلية، الى أكثر من 10 درجات تحت الصفر، خصوصا في المناطق المرتفعة فوق 1500م، والتي تمثل نحو ثلث مساحة لبنان".

 

ويبيّن ان "متوسط درجة الحرارة السنوية في لبنان قد ارتفع الى ما فوق 20 درجة مئوية اليوم، بينما كان هذا المتوسط يبلغ 14.22 درجة مئوية قبل نحو 100 سنة. ثم ارتفع لاحقا الى 16.23 درجة مئوية عام 2021، نتيجة التفاوت الكبير في درجات الحرارة بين الصيف والشتاء".

 

 

 

 

 

كما يشير الى "وجود تناقضات محلية حادة في الظروف المناخية، ناجمة عن طبيعة لبنان الجبلية، والفروق الشاسعة بين الجبل والساحل والمناطق الداخلية". مضيفاً "ان التباين في معدلات الحرارة منذ بداية القرن الحادي والعشرين، ترافق مع اشتداد العواصف الشتوية، حيث يتعرض لبنان لعواصف ثلجية وأمطار غزيرة، تقابلها موجات الحر خلال فصل الصيف، حيث تبلغ المخاطر الطبيعية الرئيسية المرتبطة بالمناخ، أعلى المستويات التي عرفها لبنان في تاريخه ، نتيجة الاحتباس الحراري والتغيّر المناخي حول العالم".

 

تراجع كمية المتساقطات

 

 ونقص المياه وانتشار الجفاف

 

ويستطرد "يستنتج أن كمية الأمطار تهطل في فترات قصيرة وخلال أيام معدودة تقريبا في فصل الشتاء، حيث يتراوح متوسطها بين 650 إلى 1000 ملم على الساحل، وترتفع إلى أكثر من  1270 ملم في المرتفعات الجبلية. أما مناطق البقاع، فهي أكثر جفافاً وتتلقى كميات قليلة من الأمطار، تتراوح بين 380 إلى 640 ملم. وعلى قمم الجبال الأعلى، تهطل هذه الأمطار على شكل ثلوج كثيفة تظل حتى أوائل الصيف. وهي المورد الأساسي لتعبئة خزانات المياه الجوفية، التي يعتمد عليها في غالبية المدن الساحلية، وكذلك بالنسبة للزراعة والري في مناطق السهول، وبخاصة في سهل البقاع والمناطق الداخلية، حيث تنخفض كميات المياه وينتشر الجفاف (مناطق البقاع الشمالي)".

 

ويقول فاعور: "يتكشّف من بيانات نشرة الطقس الصادرة عن دائرة التقديرات في مصلحة الأرصاد الجوية في لبنان، أن كمية المتساقطات المتراكمة حتى اليوم لا تزال منخفضة، وهي قد بلغت في: طرابلس 438.1 ملم، بيروت 338.5 ملم، وزحلة 234.4 ملم (حتى يوم 25 شباط 2025)، لكن العواصف التي شهدها لبنان منذ بداية شهر شباط (بفعل العاصفين أسيل وآدم) قد ساعدتا في تساقط كميات كبيرة من الثلوج على المناطق الجبلية (ما فوق 700 ملم). ومع انخفاض درجات الحرارة وانتشار الصقيع، ستساعد هذه الثلوج في الذوبان تدريجيا الى داخل خزانات المياه الجوفية، مما يساهم في تعويض نقص المياه الحاصل في الآبار، وتخفيف مستوى ملوحة المياه المتعمدة في الزراعة، وكذلك بالنسبة للاستخدام المنزلي في المدن". لذلك، يضيف، من المتوقع أن تشهد الأيام القادمة حتى نهاية شهر آذار المزيد من الأمطار، مما قد يساعد في الوصول الى المستوى المطلوب، وبخاصة مع تزايد الطلب على المياه، نتيجة تنامي الكثافة السكانية في المدن الكبرى، وبخاصة في مناطق البقاع وعكار والشمال، حيث تعاظم أعداد النازحين واللاجئين ، ويزداد الطلب على المياه مع ارتفاع عدد السكان المقيمين في لبنان الى أكثر من 7.5 ملايين ساكن على مختلف الأراضي اللبنانية".

 

 

 

 

 

يبقى السؤال الأبرز في هذا السياق: كيف يمكن مواجهة هذه التغيرات، وما هو موقع لبنان في التصدّي للمخاطر المناخية؟

 

 

 

تصنيف لبنان حسب مؤشر

 

 المخاطر المناخية العالمية 

 

ويستكمل "أما موقع لبنان بحسب مؤشر المخاطر المناخية العالمية، الذي يحدد درجة تكيّف الدول، ومدى تعرضها لتغير المناخ والتحديات العالمية الأخرى، إضافة الى مدى استعدادها لتحسين المرونة والقدرة على التكيّف لمجابهة التحديات المناخية، فيحتل لبنان المرتبة 117 في مؤشر التكيّف العالمي لجامعة نوتردام ((ND-GAIN. وهو يأتي في المرتبة 97 بين الدول، وفقا لمؤشر المخاطر العالمية (الصادر عن هيئة مراقبة المناخ في ألمانيا)، من حيث مدى تعرّضها للمخاطر (درجة التعرّض)، وفي المرتبة 158 بين الدول بحسب مؤشر ادارة المخاطر (INFORM)، من حيث قدرتها واستعدادها لمواجهة المخاطر (درجة الاستعداد). ويعني هذا التصنيف أنه، بالمقارنة مع الدول الأخرى، فإن نقاط ضعفه الحالية يمكن إدارتها، لكن ذلك يعتمد على قدرة الدولة ومدى تحسين جهوزيتها وتحضيراتها لمواجهة المخاطر والكوارث الطبيعية، مثل الحرائق، والسيول عند المنحدرات الجبلية وانجراف التربة ومخاطر ارتفاع الأمواج واجتياح الشاطئ. وكلما تطورت هذه العوامل، تضاعفت قدرة لبنان على التكيّف مع التحديات المستقبلية (طبقا لمؤشر التكيّف العالمي لجامعة نوتردام، 2023)".

 

 

 

قياس مقدرة الدولة لمواجهة 

 

المخاطر المناخية يستند الى قاعدتين

 

ويفصّل الوضع المحلي الراهن قائلا: "بينما يقيس مؤشر الضعف مدى تعرض الدولة لتأثيرات التغير المناخي وحساسيتها وقدرتها على التكيّف معها، يلاحظ أن مؤشر جامعة نوتردام يركز على مواطن الضعف الإجمالي للدولة، من خلال التقييم الشامل في ستة قطاعات مؤثرة وداعمة للحياة: وهي الغذاء، والمياه، والصحة، وخدمة النظم الإيكولوجية، والمساكن البشرية، والبنية الأساسية. ومن الأمثلة على مؤشرات المخاطر والضعف: التعرّض للفيضانات والأعاصير وموجات الجفاف، والأمن الغذائي، والتلوّث ومعدل وفيات الأطفال، وغيرها".

 

ويؤكد ان "مؤشر مقدرة الدولة على الاستفادة من الاستثمارات، وتحويلها الى اجراءات تكيّف لقياس الاستعداد الشامل، من خلال النظر في ثلاث مكوّنات، وهي: الاستعداد الاقتصادي والاجتماعي، والاعداد للحوكمة. كما يرتكز أيضاً على تنظيم الادارة الداخلية، لجهة مواجهة العواصف والفيضانات والجفاف، من خلال تعزيز دور البلديات، ووضع أسس لتخفيف الأضرار الناجمة عن الاحتباس الحراري، وحماية البيئة المحلية لجهة تخفيف التلوّث، وتدبير إدارة النفايات، ولا سيّما تأمين الكهرباء للأسر في المناطق المعرّضة للتهديدات".

 

 

 

 

 

وينوّه فاعور في ختام حديثه الى ان "مواجهة لبنان للتحديات والمخاطر الناتجة من التغيّر المناخي، تتطلب من الدولة وضع خطة شاملة لمواجهة المخاطر، والاستعداد للتكيّف مع كافة الكوارث المناخية الممكن حصولها خلال السنوات القادمة، مع الأخذ في الاعتبار لخصائص طبيعة لبنان الجبلية (بحيث أن ثلث مساحة لبنان تقع فوق مستوى 1500 م ارتفاع)، ولجهة انتشار المناطق الجبلية الواسع وكثافة السكان في مختلف المناطق، وفي مواجهة الأعاصير واحتمال حدوث الفيضانات في الأنهار، وكذلك بالنسبة لانجراف التربة والصخور عند المنحدرات والسفوح الجبلية، مما يستدعي اعداد خطة تصدّي شاملة تكفل الحد من الخسائر البشرية والاقتصادية، مع ضرورة الاستعداد لمخاطر الحرائق وارتفاع الأمواج في المناطق الساحلية".  

 

 

 

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram