تُؤشر المشكلة المستجدة المُتمثلة بمنع هبوط طائرات ركاب إيرانية في مطار رفيق الحريري الدولي إلى قوس أزمات بدأ يتشكل في مرحلة ما بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، وهو عدوان لم يتم وضع خاتمة رسمية له في ضوء التسويف الإسرائيلي بالإنسحاب الكامل ووجود مظلة أميركية لـ"حرية التدخل" العسكري الإسرائيلي في لبنان، ما يُنذر بتعريض الوضع اللبناني الهش لتداعيات سلبية في المرحلة المقبلة.
من تمديد مهلة الإنسحاب الإسرائيلي من المناطق المحتلة في الجنوب، إلى إبلاغ العدو الجانب اللبناني عبر الولايات المتحدة رغبته بالاحتفاظ بخمس تلال حاكمة تُطلّ على بلدات لبنانية عديدة، إلى استمرار الغارات التي تستهدف نقاطاً وسيارات في الجنوب والبقاع، إلى خرق جدار الصوت بشكل مدوٍّ فوق بيروت وضواحيها قبل أيام، إلى تمرير إنذار ضمنيّ بالتعرض لطائرات مدنية إيرانية إذا حاولت الهبوط في مطار بيروت الدولي، كلها غيوم تتراكم فوق لبنان وتتسبب بفجوة كبيرة بين الموقف الرسمي الذي يُمثله رئيسا الجمهورية العماد جوزاف عون والحكومة نواف سلام وبين موقف الشارع الخارج من جلجلة التهجير والتدمير والذي يحاول استعادة حياته الطبيعية وسط تهديدات إسرائيلية مستمرة وتواطؤ أميركي للضغط على بيئة المقاومة بوسائل مختلفة.
ويتعامل لبنان رسمياً مع التحديات الناجمة عن العدوان الإسرائيلي (الإنسحاب الإسرائيلي، تطبيق القرار 1701 ومعالجة الخروق الإسرائيلية المتفاقمة، إعادة الإعمار، إلخ…) بمنطق سدّ الذرائع، وهذا يُفضي عملياً إلى توالي الذرائع الإسرائيلية التي لا تنتهي، ما يؤدي إلى انكشاف داخلي أمام تدخلات إسرائيلية وأميركية علنية ومستترة في طريقة إدارة الشؤون اللبنانية، لا سيما على الصعيدين الأمني والسياسي.
ما يُقال عن أن الطائرات المدنية الإيرانية تحمل أموالاً إلى حزب الله، سواء كان صحيحاً أو كاذباً، يوضح بجلاء المقصد من هذه الإدعاءات، ألا وهو فرض حصار على بيئة المقاومة وتجفيف إمكانياتها المالية في مرحلة تتطلب معالجة آثار العدوان
وكانت تصريحات نائبة المبعوث الرئاسي الأميركي إلى المنطقة مورغان أورتاغوس أمام القصر الرئاسي في بعبدا بمثابة دليل واضح على فداحة التوغل المباشر في قضايا لبنانية مثل تشكيل الحكومة وغيرها. وتسببت هذه التدخلات في توتر لبناني وضع رئيسي الجمهورية والحكومة في موقف حرج، وزرع هواجس لدى الشارع المؤيد للمقاومة في شأن السياسات التي يزمع أهل الحكم الجديد إرساءها في مرحلة انطلاق الحكومة بدءاً بالبيان الوزاري الذي أقر باجماع الوزراء.. وما بعده.
أين جوهر المشكلة؟
لم يعد سراً أنه منذ أزمة محاولة تفتيش الحقائب الدبلوماسية الإيرانية القادمة على متن طائرة إيرانية في مطار بيروت بداية الشهر الفائت، والتي زُعم أنها تحمل أموالاً مرسلة إلى حزب الله، بدأ المعنيون في إيران وحزب الله يُدركون أن ثمة قراراً بالتضييق على الرحلات الإيرانية التجارية إلى بيروت من جهة، وعلى تمويل عملية إعادة إعمار ما هدّمه العدوان الإسرائيلي من جهة أخرى. وكانت هناك مزاعم سابقة عن استخدام الحزب للمطار من أجل تخزين صواريخ استراتيجية في حزيران/يونيو الماضي نشرتها صحيفة “ذا تلغراف” البريطانية، لكنها لم تصمد أمام الوقائع. كما روّج العدو الإسرائيلي مزاعم عن استخدام المطار لتهريب السلاح، لكن من دون تقديم أي دليل. الآن، أضحت الرواية الإسرائيلية المركزية تدور حول ادّعاء تهريب أموال إيرانية عبر المطار، من دون أي دليل حتى الآن.
وما يجري في هذا الشأن هو صدى لمشكلة جوهرية تتلخص في النقاط الآتية:
الأولى؛ وجود مخاوف حقيقية من محاولة إعاقة مسيرة إعادة إعمار ما هدّمه العدوان الإسرائيلي. نعرف جميعاً أنه لا توجد خطط جدية حتى الآن ولا مشروع واضحاً للإعمار، سوى ما تُقدّمه إيران من دعم مالي للمتضررين من العدوان. أما الحديث عن مشاريع أخرى فهو كلام في الهواء ووعود دونها شروط وآفاق زمنية مفتوحة بدون حدود. لا تريد الحكومة اللبنانية قبول هبات إيرانية لأنها تخشى العصا الأميركية الغليظة، وأكثر من ذلك هي تنخرط طوعاً أو كرهاً بعملية إغلاق الباب على المساعدات الإيرانية سواء جاءت بطرق رسمية أو غير رسمية. وما يُقال عن أن الطائرات المدنية الإيرانية تحمل أموالاً إلى حزب الله، سواء كان صحيحاً أو كاذباً، يوضح بجلاء المقصد من هذه الإدعاءات، ألا وهو فرض حصار على بيئة المقاومة وتجفيف إمكانياتها المالية في مرحلة تتطلب معالجة آثار العدوان والنهوض مُجدداً بالمناطق المتضررة.
الثانية؛ وجود مؤشرات على محاولة تحجيم العلاقات بين لبنان وإيران إلى أدنى حد ممكن. لا داعي لسرد مجموعة الخطوات التي تمت بحق الطائرات الإيرانية التي تحطّ في المطار بحجج وذرائع لم يثبت منها شيء، ولا السلوكيات غير اللائقة مع بعض الدبلوماسيين الإيرانيين الذين زاروا لبنان عبر المطار (ما جرى مثلاً مع الوفد المرافق لمستشار مرشد الجمهورية الاسلامية علي لاريجاني في الخريف الماضي، ومع الحقائب الدبلوماسية التابعة للسفارة الإيرانية في بيروت مؤخراً)، وهي سلوكيات لا يجرؤ الضباط المعنيون في المطار على القيام بها مع فرق رياضية من دول عربية وغربية، فضلاً عن الهيئات الدبلوماسية لهذه الدول. وتُمثّل العلاقات بين لبنان وإيران أمراً في غاية الأهمية بالنسبة لجمهور لبناني، كما تمثل فرنسا أو الولايات المتحدة أو السعودية أو تركيا لجمهور آخر. ويتصل الموضوع بالبعد الثقافي والديني والتاريخي، ذلك أن جزءاً من النسيج اللبناني يرتبط بالجمهورية الاسلامية الإيرانية دينياً وثقافياً واجتماعياً وتجارياً، وينبغي على المسؤولين في الحكم أخذ ذلك في الإعتبار تحاشياً لتكرار خطأ الرئيس أمين الجميل عندما أقدم في العام 1983 على قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، مستنداً إلى دعم أميركي وغربي تجسَّد بالقوة المتعددة الجنسية التي كانت منتشرة في بيروت غداة الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :