كما كان متوقعاً، وعلى الرغم من أنّه طرحها بـ»حسم» وقرأها من ورقة كانت موضوعة أمامه، فقد تبيّن أن خطة الرئيس الجمهوري، دونالد ترامب، لـ»استملاك» قطاع غزة، جاءت من دون أي تخطيط مسبق من قبل إدارته، ما دفع بالعديد من المسؤولين في الأخيرة إلى «التخفيف» من العناصر الموجودة فيها، بعد ساعات من إعلانه عنها، وبالكثير من المحلّلين إلى اعتبارها مجرد ورقة ضغط في أيّ مفاوضات قادمة.
وطبقاً لأربعة مصادر مطّلعة، تحدثت إلى صحيفة «نيويورك تايمز»، فإنّ إدارة ترامب لم تجرِ ولو تخطيطاً بسيطاً لفحص «جدوى» الفكرة، كما لم تكن هناك اجتماعات مع وزارة الخارجية أو البنتاغون، مثلما يحدث عادة لدى بحث أيّ اقتراح «جادّ» في السياسة الخارجية، فضلاً عن اقتراح بهذا الحجم. كذلك، لم تقدّم وزارة الدفاع أيّ تقديرات لأعداد القوات المطلوبة، أو التكلفة، أو حتى المخطط لكيفية عمل تلك القوات. وطبقاً للعديد من كبار المسؤولين، فإنّ الكثيرين في الداخل الأميركي يحاولون فهم «نشأة الفكرة»، ويرون أنها خيالية بالنسبة إلى ترامب نفسه حتى. واللافت، أنّ اقتراحه الذي يتطلّب أن تتحمّل واشنطن المسؤولية عن واحدة من أسوأ مناطق الكوارث في العالم، يتزامن مع إغلاقه الوكالة الحكومية الفيدرالية الرئيسيّة المسؤولة عن المساعدة في التنمية الخارجية، أي «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» (USAID).
وعليه، حاول كبار مسؤولي إدارة ترامب، في اليوم الذي تلى اقتراح الأخير، دحض العديد من النقاط الموجودة فيه؛ إذ أشار وزير الخارجية، ماركو روبيو، مرتين، إلى أن ترامب كان يقترح فقط إخلاء غزة وإعادة بنائها، وليس السيطرة عليها، فيما قال المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، في اجتماع مغلق في «الكابيتول هيل»، إن ترامب «لا يريد وضع أيّ قوات أميركية على الأرض، ولا يريد إنفاق أيّ دولارات أميركية على الإطلاق» على غزة، بحسب أحد أعضاء مجلس الشيوخ الذي تحدث إلى الصحيفة الأميركية، في خروج ملحوظ عن الخطط التي ذكرها ترامب خلال مؤتمره الصحافي مع بنيامين نتيناهو.
تزامناً مع ذلك، يؤكد العديد من الخبراء أن فكرة ترامب غير قابلة للتنفيذ على الأرجح، متسائلين عما إذا كان الرئيس سيخاطر فعلاً بجرّ القوات الأميركية إلى مواجهة جديدة مع «الإسلاميين المتشددين» في الشرق الأوسط، ولا سيما أنّ عمليات نقل السكان، على النطاق المشار إليه، ساهمت، تاريخياً، في تسعير المشاكل الاجتماعية والسياسية بدلاً من حلّها، وتسبّبت في معاناة شديدة للأشخاص الذين أجبروا على ترك ديارهم، على غرار ما حصل عقب تشريد ما يقرب من 20 مليون شخص أثناء تقسيم الهند في عام 1947. وبينما صوّر ترامب فكرته على أنّها مبادرة «لطيفة» إزاء الفلسطينيين الذين يعيشون في منطقة «مهلكة»، فإنّ الخبراء القانونيين يحذّرون من أنّ الترحيل القسري الذي يروّج له سيكون بمثابة جريمة جديدة ضد الإنسانية.
ورقة مفاوضات؟
دفعت اللاواقعية التي طبعت خطط ترامب، بالعديد من المحلّلين إلى التساؤل عما إذا كانت الأخيرة مجرد محاولة لافتتاح جولة جديدة من المفاوضات حول مستقبل غزة، ولا سيما مع اقتراب المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، والذي سيتطلّب حلاً لـ»شكل الحكم» في القطاع. وفي هذا السياق، نشرت مجلة «فورين بوليسي» تقريراً جاء فيه أنّ من الواضح أن فكرة سيطرة الولايات المتحدة على قطاع غزة غير مجدية، إلى درجة أنه لا يمكن اعتبارها خياراً موثوقاً به في أيّ وقت قريب. من هنا، ينكبّ المحلّلون والمتخصّصون في السياسة الخارجية على معرفة الطرف الذي يحاول ترامب الضغط عليه، من خلال موقفه المتطرف والقادر على تعطيل الخطط حول مستقبل غزة ما بعد الحرب، بحسب المجلة.
ومن المرجح أن ترامب يسعى للضغط على الدول العربية، ودفعها إلى بذل المزيد من الجهود وأخذ زمام المبادرة لتجنّب تدخّل الولايات المتحدة مباشرة. ويشمل المخطّط، بحسب المصدر نفسه، دول الخليج التي يأمل ترامب أن تموّل إعادة الإعمار. وفي حين أن مصر والأردن غير قادرتين على استقبال الفلسطينيين النازحين لأسباب جيوسياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية واضحة، إلا أنّ من المتوقع أن تقوما بدورٍ أمنيٍّ أكثر أهمية في غزة، لتحقيق الهدف النهائي المتمثّل في «منع احتكار (حماس) للسلطة»، وهو ما قد يحاول ترامب دفعهما في اتجاهه. ويختم أصحاب الرأي المتقدم بالقول إنّه بغض النظر عن نيات ترامب الحقيقية، فإن تصريحاته ستلحق، حتماً، أضراراً كبيرة «بالمكانة الدولية والإقليمية للولايات المتحدة، وتزيد من التصور السائد بأنها لم تكن ذات فائدة طوال الحرب في غزة».
وفي تقرير منفصل، تلفت المجلة نفسها إلى أنّ اقتراح ترامب لا يعكس فقط «إفلاساً أخلاقياً»، بل هو «محض جنون»؛ إذ إنّه على عكس ادعاءات ساكن البيت الأبيض، فإنّ قادة الدول الأخرى، وفي المنطقة تحديداً، يرفضون خطته. كذلك، وعلى الرغم من أنّ القوات المسلحة الأميركية قادرة على السيطرة على القطاع، إلا أنّ هذا سيكون على حساب التضحية بالأرواح الأميركية، نظراً إلى أنّ «حماس» لا تزال قوة «قاتلة ومسلّحة جيداً»، على الرغم من أنّ إسرائيل بذلت «قصارى جهدها ضدها». ويطرح التقرير تساؤلاً ساخراً، مفاده ما إذا كان مقاتلو الحركة «سيذهبون بهدوء إلى شبه جزيرة سيناء». يضاف إلى ما تقدم، أنّ «هلوسات» ترامب ستقضي على أيّ فرصة لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، وتقوّض الاتفاقات المبرمة سابقاً مع دول أخرى من مثل مصر والأردن، وستعيد، أيضاً، «تمكين إيران التي وجدت نفسها في حالة من الضعف».
على أنّ النقطة التي لا تقلّ أهمية عن ذلك، طبقاً للمصدر نفسه، هي أنّ الرئيس ومن يقدّم المشورة له، يفشلون في فهم أنّ «النكبة» لا تزال تلقي بظلالها على الفلسطينيين الذين يرفضون تشريدهم مرة أخرى، بغضّ النظر عن مدى صعوبة الحياة في قطاع غزة، والذي يظلّ بالنسبة إليهم بمثابة «موطئ قدم في فلسطين، وتذكيراً صارخاً بالظلم التاريخي الذي يعدّ جزءاً من مؤسسة إسرائيل». وعليه، إذا أراد ترامب ترحيل السكان منكراً تلك الحقائق، فسيكون عليه القيام بهذا بـ»القوة». وبالمجمل، يرى مراقبون أنّ من العناصر التي تجعل خطة ترامب غير قابلة للتحقق، عدم فهمه، أو على أقل تقدير، عدم اهتمامه، بتاريخ المنطقة، والعلاقات الفلسطينية المتشابكة، والأهم ممّا تقدم، العلاقة العاطفية التي تربط الناس بأرضهم.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :