موجة أولى من «الانقلاب الأبيض»: ترامب يبدأ تغيير أميركا

موجة أولى من «الانقلاب الأبيض»: ترامب يبدأ تغيير أميركا

 

Telegram

 

حملت حزمة الأوامر التنفيذية التي أصدرها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، منذ الساعات الأولى لتنصيبه، دلالات كثيرة حول أهداف الرجل، بخاصة على مستوى سياسته الداخلية على أكثر من صعيد، ولا سيما الاجتماعي منها. وكانت أولى الخطوات التي اتخذها ترامب، وقف كل أشكال المساعدات الخارجية لمدة 90 يوماً (باستثناء تلك المخصّصة لكل من إسرائيل ومصر لأسباب متعددة)، وهو ما أنبأ بأن «المد الترامبي»، بخلفيته الثقافية العنصرية، بخاصة ما يتعلق منها بالنظرة إلى المهاجرين، لن يقف عند حدود الولايات المتحدة، بل سيتعداها إلى فضاءات عالمية أوسع، الأمر الذي عبّر عنه وزير الخارجية، ماركو روبيو، حين قال إنه «ستكون هناك تغييرات» في السياسة الخارجية لبلاده، مشيراً إلى أن «الهجرات الجماعية باتت تمثل القضية الأكثر أهمية في عصرنا». وتعهّد روبيو بأن واشنطن لن تتخذ بعد الآن إجراءات من شأنها «تسهيل ذلك النوع من الهجرات أو تشجيعها»، مؤكداً أن الديبلوماسية الغربية عموماً، والأميركية خصوصاً، «ستعطي الأولوية لتأمين حدود أميركا»، ولن تعود بعد الآن إلى «الترويج للقضايا السياسية والثقافية التي تسبّب الانقسام في الداخل، والتي تفتقر إلى الشعبية في الخارج»، في إشارة إلى نبذ قيم التعددية بكل أشكالها، وأي ممارسات يمكن أن تشكل ما سمّاه «تهديداً» للمصالح الأميركية، بما في ذلك «السياسات المناخية التي أضعفت الولايات المتحدة». وعن تبعات قرار وقف المساعدات الخارجية، اعتبرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن هذا القرار هو «الأكثر تأثيراً لناحية فرض تداعيات مباشرة على سائر العمليات في وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)»، موضحة أن الأمر «يعني أن مئات الملايين من الدولارات المخصّصة عادة لبرامج الدعم الإنساني الأساسي عبر القارات، قد جُمّدت». ونقلت الصحيفة عن مسؤول أميركي قوله «إن المنظمات غير الحكومية التي كانت تستخدم الأموال لرفد تلك البرامج، تبذل قصارى جهدها لمعرفة ما يجب عليها فعله حالياً، علماً أن عدداً من البرامج المماثلة العاملة في المناطق الفقيرة والمتضررة من الحروب أو الكوارث في العالم قد تتوقف بصورة مفاجئة».

أي حرب ثقافية يريدها ترامب؟
وفي موازاة النهج الخارجي الذي يضع مصالح «أميركا ترامب» فوق كل اعتبار، بما في ذلك «الخطاب القيمي» الذي لطالما صدّرته واشنطن إلى مختلف أصقاع الأرض، أو متطلبات الحلفاء التقليديين المهدّدين بقطع المساعدات الأميركية عنهم في حال عدم خضوعهم لإملاءات ترامب، انشغل الأخير فور تسلمه السلطة بفرض تدابير جديدة، شملت حجب الجنسية عن الطفل المولود على أراضي الولايات المتحدة، إن لم يكن من أبوين أميركيين، حتى وإن كانت لديهما إقامة شرعية مؤقتة داخل البلاد، وهو ما أدخله في صدام مع سلطات أكثر من عشرين ولاية أميركية، تقدمت بدعوى للطعن في القرار أمام القضاء. إذ استنكر المدعي العام لولاية نيوجيرسي، ماثيو بلاتكين، نهج ترامب تجاه المهاجرين، معتبراً أن محاولة الرئيس تقييد منح الجنسية «مخالف لموجبات التعديل الرابع عشر، الذي يعطي الجنسية للمولودين على أراض خاضغة لسيادة البلاد بصورة تلقائية»، ومضيفاً أن ما أقدم عليه الرجل يحمل خلفيات «متطرفة خارجة عن المألوف».

وإذ أيد المدعي العام لولاية واشنطن، نيك براون، ما ذهب إليه زميله بالتأكيد أن الرئيس «لا يمكنه إعادة كتابة الدستور بجرّة قلم»، فهو حذّر من أن قرار ترامب من شأنه أن يحرم 150 ألف طفل حديث الولادة داخل الولايات المتحدة كل عام، من الحصول على جنسيتها. وفي ضوء تأييد قضاة محسوبين على الرئيس، للقرار الذي من المنتظر أن يصبح ساري المفعول خلال 30 يوماً من صدوره، ومن أبرزهم جايمس هو، الذي رشحه ترامب لرئاسة إحدى محاكم الاستئناف، من منطلق تعاطيه مع المهاجرين بوصفهم «جهة محتلة» جاءت بدافع عدواني، وليس كـ«لاجئ» قادم لغايات إنسانية أو اقتصادية، حذّر محللون من تبعات القرار على وحدة الجسم القضائي، علماً أن تفسير المادة الدستورية الخلافية لا يمكن البت به إلا عبر الكونغرس، وليس مؤسسة الرئاسة.

وعطفاً على قرار حجب الجنسية، قرر ترامب التراجع عمّا يسمى بـ«برامج تعزيز الشمول والتنوع» داخل المؤسسات العامة الأميركية، والتي كان معمولاً بها خلال عهد الرئيس السابق، جو بايدن، وتراعي المساواة بين الأفراد المتعددي الأعراق والثقافات في صنع السياسات العامة على مختلف الصعد. إذ أوعز الرئيس الجديد بتفكيك شامل لتلك البرامج في الحكومة الاتحادية، وعزل كل الموظفين العاملين فيها، في قرار قد يشمل قطاعات متعددة من التدريب على مكافحة التحيّز، وصولاً إلى تمويل المزارعين وأصحاب المنازل من الأقليات. وأتبع ترامب ذلك بدعوة وجهها إلى العاملين في القطاع الخاص والشركات، لإنهاء ما سمّاه «التمييز والتفضيلات غير القانونية المعمول بها وفقاً لبرامج التنوع والشمول»، بوصفها تكريساً لمنح «المزايا على أساس الأصول (الاجتماعية) عوضاً عن معيار الكفاءة»، وهو ما سارعت إلى الاستجابة له شركات مقرّبة من العهد الأميركي الجديد كـ«ميتا» و«ماكدونالدز». وبحسب مراقبين للشأن الأميركي، فإن الأوامر التنفيذية الصادرة عن ترامب في مجال «سياسات التنوع والشمول»، تتشابه في خلفيتها الاقتصادية مع قرارات مماثلة لقطع التمويل عن «شبكة الحماية الاجتماعية»، وتعاكس في خلفيتها الثقافية موقف سلفه بايدن المؤيد لهذه السياسات بوصفها أداة لـ«إنهاء عقود من التمييز والإهمال في المجتمعات المحرومة»، و«تصحيح مسار الأمة» وليس «تهديد مستقبلها».

وإذا كان البعض يعتقد أن الأوامر الجديدة تندرج ضمن محاولات ترامب الوفاء بتعهداته الانتخابية لجمهوره من المحافظين، وذلك بالقضاء على ما يعتبره هؤلاء سياسة «راديكالية»، و«تبذيراً» في الميزانيات المخصصة لدعم «برامج التنوع والشمول»، يرى آخرون أن ما يجري يعدّ «بمنزلة تصعيد دراماتيكي لحرب ترامب على البرامج المذكورة، والتي لا تعني فرض معاملة تفضيلية بقدر كونها تتيح تجاوز الفروقات (العرقية والاجتماعية والثقافية)» ضمن سياسة تعود إلى عهد الرئيس الراحل، أندرو جونسون. وإلى جانب استهدافه «التنوع والشمول»، أصدر ترامب قرارات تحظر على المتحولين جنسياً إمكانية الانضمام إلى الجيش، بما يمهّد لاحقاً، وفقاً لمراقبين، لاستبعادهم كلياً من صفوف القوات المسلّحة، بكل ما يعينه الأمر من حساسية، بالنظر إلى عدد هؤلاء المقدر حالياً داخل الجيش بما بين 15 ألفاً و25 ألفاً، وإقحام المؤسسة العسكرية من جديد في حرب ثقافية وسياسية، من شأنها أن تفضي إلى تآكل ما تتمتع به من دعم من كلا الحزبين، إضافة إلى تآكل دعم الجمهور للجيش الذي من المفترض أن يكون بعيداً عن السياسة. ولعلّ من أمارات تلك الحرب، وأكثرها رمزية، هو أمر ترامب بإنزال صورة الجنرال السابق، مايك ميلي، عن جدار إحدى القاعات التكريمية لسِير قادة الجيش السابقين في مبنى وزارة الدفاع، بدعوى «عدم الولاء»، لرفض ميلي في عام 2020 قمع المتظاهرين ضد مقتل جورج فلويد خلال ولايته الأولى، فضلاً عن إقالة قائدة خفر السواحل، ليندا فايغن، وهي أول امرأة تقود جهازاً عسكرياً أميركياً، في ما يدلّ على تحامل ترامب على حضور النساء في الجيش.

تطهير قضائي وإداري
لاقى قرار ترامب إطلاق سراح قرابة 1600 من المدانين بالهجوم على «كابيتول»، معارضة من قطاع بارز من رجال الشرطة والقضاة ممن عايشوا أحداث 6 يناير 2021، وحتى بعض أعضاء الكونغرس الجمهوريين كالسيناتورة عن ولاية ماين، سوزان كولينز، حين تمسّكت بمواقفه السابقة الداعية إلى عدم التسامح مع كل من قام بأعمال عنف في ذلك اليوم، خلافاً لزميلها عن ولاية داكوتا الشمالية، كيفن كرامر، الذي حاول «مداهنة» العهد الجديد، معتبراً أن العفو فرصة لـ«المضي قدماً، وتجاوز ما جرى». وفي مؤشر إلى محاولة ترامب استغلال سلطته في «تصفية الحسابات» مع بعض خصومه، أمر بسحب فرق الحراسة الخاصة بعدد من هؤلاء، والمموّلة من برامج حكومية، وفي طليعتهم الدكتور أنتوني فاوتشي الذي خدم في عهد ترامب ككبير خبراء الأمراض المعدية في البلاد، والذي توترت علاقاته بالرئيس خلال مدة «كورونا»، على خلفية تتعلق بـ«النظرة المؤامراتية» التي يحيط بها الأخير ظاهرة الجائحة، وكذلك جون بولتون، الذي كان مستشاره لشؤون الأمن القومي في ولايته الأولى قبل أن يقيله لاحقاً.

ومتجاوزاً القوانين التي تلزمه بإخطار الكونغرس بأي قرار إقالة ضمن مهلة لا تقل عن الشهر مع توضيح الأسباب الموجبة، استكمل ترامب إجراءاته «التطهيرية» في القضاء، عبر ما يُشاع عن نيته إقالة 12 مفتشاً عاماً، وتعيين مقربين إليه في مراكز قضائية شاغرة في واشنطن ونيويورك، فضلاً عن إقالته ثلاثة أعضاء، وكلهم ديموقراطيون، من أصل خمسة أعضاء مما يعرف بـ«مجلس مراقبة الخصوصية ومراقبة الحريات المدنية»، والمنوطة به أدوار أمنية ورقابية تجاه الحكومة، وذلك في إطار محاولاته تعطيل عمل المجلس المستقل. ودان السيناتور الديموقراطي عن ولاية أوريغون، رون وايدن، تلك الخطوة، قائلاً، في بيان، إنها مرتبطة بتطلع ترامب إلى تثبيت الموالين له في وكالات أمنية مختلفة، كـ«مكتب التحقيقات الفيدرالي» و«وكالات الاستخبارات المركزية» لتوظيفهم كسلاح ضد خصومه السياسيين. وهي سياسة تدرجها أوساط قانونية في سياق تبني فريق ترامب القانوني لمفهوم «السلطة التنفيذية الأحادية»، والذي يقوم على تفسير خاص لصلاحيات الرئيس، يحصر مهمات السلطة التنفيذية بيده، بمعزل عن أي هيئة تنفيذية الأخرى.

وتحمل تلك الممارسات، وفقاً لمتابعين للشأن الأميركي، مؤشرات إلى «رغبة ترامب واستعداده لتوسيع هامش سلطة مؤسسة الرئاسة، من جهة، والسعي إلى اختبار مدى مرونة مؤسسات الحكم الأميركية، وقوة النظام (السياسي) الذي يرعاها منذ قرابة قرنين ونصف القرن، من جهة ثانية، وقياس درجة تسامح بعض حلفائه معه، من جهة ثالثة». ويعرب هؤلاء عن قناعتهم بأن الرجل «يعتقد بأن القواعد التي اتبعها أسلافه إلى حد كبير من المفترض أن يتم طيّها وتجاوزها أو حتى كسرها». وفي هذا الصدد، يلفت أستاذ الحوكمة في «كلية دارتموث»، بريندان نيهان، إلى أن السياسي الجمهوري «يوظف كل أدوات الحكم المتوافرة بحوزته لتحدي مختلف القيود المفروضة على صلاحيات مؤسسة الرئاسة، المنبثقة من مدة ما بعد (فضيحة) ووترغيت»، مرجّحاً وقوع صدام بين ترامب والمؤسسة القضائية على هذه الخلفية. ويشير إلى أن «مستوى الطاعة التي نراها من جانب طبقة رجال الأعمال والجامعات ووسائل الإعلام للرئيس غير مسبوق»، بينما يرى المدير التنفيذي لـ«مكتبة جورج واشنطن» الرئاسية، ليندسي تشيرفينسكي، وهو مؤلف لعدد من الكتب عن الرئاسة، أن ما أظهرته أحداث الأسبوع الماضي كشفت عن سير ترامب على نهج أسلافه بالسعي خلف «الانتقام» من خصومهم، إلى جانب دعوة الجمهور إلى «التوحد»، و«التركيز على النظرة إلى المستقبل»، مضيفاً أن ذلك النهج «يبدو وكأنه القاعدة السائدة والأساسية على هذا الصعيد لبقاء الجمهورية».

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram