لا تبدو تصريحات الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب حول «ترحيل» سكان غزة، محض «زلّات لسان» غير مدروسة، ولا سيما أنّ عدداً من المحيطين به سارعوا إلى استعراض «الفوائد» التي قد تنتج من الخطة المشار إليها، بذريعة الحرص على سلامة أهالي غزة وتسهيل عملية إعادة إعمار القطاع. يأتي ذلك فيما يثير عدم توفر خطط عقلانية وقابلة للتحقيق في غزة، تضمن الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار، المخاوف من أنّ العهد الأميركي القادم قد يمنع تحقيق أي استقرار طويل الأمد، ويفجر المزيد من الأزمات في المنطقة بدلاً من الحدّ منها.
وبعدما أثار ترامب، أخيراً، إحدى القضايا الأكثر «حساسية» بالنسبة إلى الفلسطينيين والدول المحيطة بهم، والمتمثلة بإجبار الملايين من سكان غزة على الانتقال إلى بلدان كمصر والأردن، نقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن مساعدين مقربين من الرئيس الأميركي قولهم، الأحد، إنهم يعتبرون «غزة أرضاً قاحلة مليئة بالأنقاض والذخائر غير المنفجرة»، ويرون أنّ «إعادة إعمارها ستصبح أسهل بشكل كبير مع رحيل سكانها». وقال أحد المسؤولين في الإدارة الحالية: «لا يمكنك أن تطالب الناس بالبقاء في مكان غير صالح للسكن لأسباب سياسية»، مضيفاً أنّه قد يتم منح الفلسطينيين «تأكيدات بأنهم قد يعودون في النهاية، بعد مفاوضات مع شركاء إقليميين». وفي إحدى مقابلاته، أكد غوردون سوندلاند، الذي شغل منصب سفير ترامب لدى الاتحاد الأوروبي خلال الولاية الأولى للأخير، أنّه اطلع على «خطط لتحديث البنية التحتية للمنطقة خلال المفاوضات بشأن اتفاقيات أبراهام»، معتبراً أنّه في حال كانت هناك «ضمانات صارمة» حول عودة الفلسطينيين إلى ديارهم، فإنّ فكرة ترامب تبدو «رائعة».
على أنّ «الضمانات» التي شرع فريق ترامب في التحدث عنها بهدف جعل الفكرة أكثر «استساغة» بالنسبة إلى الدول العربية، ولا سيما مصر والأردن، اللتين ترفضان، منذ اللحظة الأولى، الطرح المشار إليه جملة وتفصيلاً، لم تحل دون صدور ردود فعل غاضبة من تلك الدول، وعدد من مناصري ترامب حتى. وفي السياق، يشير تقرير أوردته صحيفة «واشنطن بوست» إلى أنّه فيما زعم ترامب أنّه أدلى بتصريحاته حول غزة من على الطائرة الرئاسية، في أعقاب حديثه، السبت، مع الملك الأردني، عبد الله الثاني، إلا أنّه وعلى غرار سائر القادة الأجانب، لا يستطيع عبد الله المخاطرة بزعزعة استقرار بلاده، من خلال استقبال موجة جديدة من اللاجئين، حتى لو كان يرغب في التعاون مع ترامب.
وجنباً إلى جنب صدور ردود فعل «سريعة وسلبية بشكل حاد» من الشرق الأوسط، عبّر مناصرو ترامب، بدورهم، عن مخاوفهم من مواقف الأخير. وتنقل الصحيفة الأميركية عن بشارة بحبح، رئيس «مجلس إدارة العرب الأميركيين من أجل ترامب»، قوله إنّهم يرفضون «رفضاً قاطعاً اقتراح الرئيس بنقل الفلسطينيين من غزة، وباستخدام القوة على ما يبدو، إلى مصر أو الأردن»، مؤكداً: «لسنا بحاجة إلى ادعاءات أو تصريحات جامحة تتعلق بمصير الفلسطينيين». من جهته، لفت السيناتور ليندسي غراهام (جمهوري، ساوث كارولينا) في برنامج على شبكة «سي إن إن»، إلى أنّ «فكرة جعل جميع الفلسطينيين يغادرون إلى مكان آخر لا تبدو عملية». وطبقاً للصحيفة، ينسى ترامب، على ما يبدو، فكرة أنّ السياسة الخارجية ليست «طريقاً ذات اتجاه واحد»، وأنّه حتى «القوى العظمى بحاجة إلى أصدقاء». وحذرت من أنّ زعزعة الشرق الأوسط، في هذا التوقيت حالياً، لا تعدّ «خطوة حكيمة»، ولا سيما أنّ الاتفاق الذي يتفاخر ترامب بالتوصل إليه في غزة، لا يزال هشاً، ويحتاج إلى الكثير من العمل.
وتأتي التحذيرات المشار إليها في وقت تنذر فيه خطوات ترامب بأنّه بعد نجاحه في الإفراج عن الأسرى، أصبح يسعى، على الأرجح، إلى التهرب من التحدي الأكثر صعوبة، والمتمثل بالتفاوض على «نهاية دائمة للصراع»؛ إذ إنّ الرئيس الجمهوري اعترف، الأسبوع الماضي، بأنّه «غير واثق بإمكانية صمود وقف إطلاق النار»، معتبراً أنّ الحرب «لسيت حرب الولايات المتحدة». كما رفع ترامب القيود التي كانت مفروضة على أنواع معينة من الأسلحة إلى إسرائيل، والعقوبات التي فرضتها إدارة جو بايدن السابقة على مستوطنين متطرفين في الضفة الغربية المحتلة. ويحذّر أصحاب هذا الرأي من أنّ التسبب بحرائق جديدة في المنطقة يقلل من قدرة ترامب على إخماد النيران المشتعلة هناك بالفعل، كما يقوّض محاولته تصوير نفسه على أنّه يتمتع بهامش من «الاستقلالية»، من خلال الظهور بمظهر «الأسير لدى أكثر الفصائل اليمينية المتطرفة في إسرائيل»، نظراً إلى أنّ هؤلاء كانوا من «المدافعين القلائل عن نقل الفلسطينيين قسراً إلى خارج غزة».
«تدارك» الوضع
وبالعودة إلى الصفقة، يرد في تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز» أنّ دور ترامب يجب أن يتركز على الحفاظ على وقف إطلاق النار في غزة، ولا سيما أنّ بنيامين نتنياهو وأتباعه اليمينيين «لا يطيقون» حقيقة عدم قدرتهم على استئصال «حماس»، فيما لم يتخلّ بعض القوميين المتطرفين عن طموحهم «في البناء على النجاحات العسكرية الإسرائيلية ضد حماس وحزب الله لإعادة المستوطنات اليهودية إلى غزة وضم أراضي الضفة الغربية». وعليه، سيكون الأمر متروكاً لفريق السياسة الخارجية في إدارة ترامب، من مثل مستشار الأمن القومي مايك والتز، ووزير الخارجية مارك روبيو، والمبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، الذي يعتزم زيارة المنطقة قريباً، لتذكير الرئيس الجمهوري بأهمية الحفاظ على الاتفاق، منعاً لتقويض «طموحات واشنطن الدبلوماسية» في الشرق الأوسط. وطبقاً للمصدر نفسه، يمكن أن يؤدي صمود الاتفاق إلى «تسريع نهاية حكم نتنياهو»، ما سيمنح ترامب «بداية جديدة» مع قيادة «أكثر اعتدالاً». وتستند هذه التوصيات، بحسب المصدر نفسه، إلى فكرة أنّ ترامب لم يظهر تعاطفاً يذكر مع الفلسطينيين خلال ولايته الأولى، أو اهتماماً فعلياً بالتوصل إلى «حل الدولتين»، كما أنّه أوعز، فور توليه منصبه أخيراً، بجملة من الإجراءات المنحازة لمصلحة إسرائيل، والتي تنذر بإمكانية المضيّ قدماً في «تفجير» الأوضاع.
نسخ الرابط :