تثير دعوة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الأردن ومصر إلى استقبال الغزيّين، بعد الحرب والتدمير شبه الكلّي الذي لحق بالقطاع، أكثر من علامة استفهام ترتبط بمصير غزة في مرحلة ما بعد الحرب، وتحديداً لجهة ما إذا كان الترتيب المنشود، أميركياً وإسرائيلياً، هو «تطهير» القطاع، وتسليمه لإسرائيل لضمّه، في ما يبدو إحياء للخطّة الأصلية التي بلورتها إسرائيل مع بدء الحرب، عندما أرادت ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء. لكنّ الخطّة هذه تُعدّ أكثر طموحاً من سابقتها، كونها لا تستثني أياً من أهالي غزة، بعكس الخطّة الأصلية التي كانت تقتصر على تهجير سكان المناطق الواقعة إلى الشمال من محور «نتساريم».
مع ذلك، فإن التعاطي عمَّا يصدر عن ترامب، يوجِب التمهُّل. فهل ما صدر عنه خطّة جرت دراستها على طاولة التخطيط في واشنطن، ويجري الآن العمل على الترويج لها وتوفير مقدّماتها تمهيداً لتنفيذها، أم أنها شبيهة بطلب ترامب في السابق حقن مرضى «كورونا» بالمنظّفات والديتول وتعريضهم للأشعة ما فوق البنفسجية؟ ثمّة أسباب وعوامل ترجّح كلتا الفرضيتَين، وإنْ كانت الكفة تميل أكثر إلى ثانيتهما.
وتُعدّ هذه هي المرّة الأولى التي يتحدّث فيها ترامب علانية عن مستقبل القطاع ما بعد الحرب، مخالفاً كلّ توقعات الخبراء حيال مقاربته للصراع في غزة واليوم الذي يليه. ومن شأن هكذا مقاربة، على رغم اختلاف أسبابها، أن تعيد الأمل إلى الفاشيين في إسرائيل بإمكان السيطرة من جديد على القطاع، تمهيداً للمباشرة في استيطانه وضمّه. وبالفعل، سارع الوزير المستقيل حديثاً من الحكومة الإسرائيلية، رئيس حزب «قوّة يهودية» الفاشي إيتمار بن غفير، إلى التعليق، بالقول إن «أحد مطالبنا من رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، هو تشجيع الهجرة الطوعية. وعندما يَطرح رئيس أكبر قوّة في العالم، ترامب، الفكرة بنفسه، فيجب على الحكومة الإسرائيلية تنفيذها. فَلْنشجّع الهجرة الآن». أمّا وزير المالية، رئيس حزب «الصهيونية الدينية»، بتسلئيل سموتريتش، فقال إن «فكرة مساعدتهم (الغزيين) في العثور على أماكن أخرى لبدء حياة جيّدة جديدة، هي فكرة عظيمة»، مضيفاً أنه «بعد 76 عاماً تمّ فيها احتجاز معظم سكان غزة قسراً في ظروف قاسية من أجل الحفاظ على طموح تدمير دولة إسرائيل، جاءت فكرة مساعدتهم في إيجاد أماكن أخرى لبدء حياة جديدة جيدة وأفضل في مكان آخر، ويجب أن تكون لدى الحكومة (الإسرائيلية) خطّة عملية لتنفيذ ذلك في أسرع وقت ممكن».
وكما يُفهم من تعليق بن غفير، ونسبياً من تعليق زميله سموتريتش، فإنه لا توجد عملية «ترحيل - ترانسفير» جاهزة، وفق ما قد يوحي به ابتداءً تصريح ترامب، الذي تحدّث عن وجوب استيعاب مليون ونصف مليون من النازحين الفلسطينيين، مؤقتاً أو إلى الأبد، في الأردن ومصر وغيرهما من دول الإقليم. لا بل إن الفكرة التي قد يوحي بها التصريح هي تسهيل الهجرة الطوعية، علماً أن مصطلح «طوعية» جزء لا يتجزأ من أدبيات الفاشيين، كون «الترانسفير» لا يلقى قبولاً عاماً. وإن كانت كلتا الدعوتيْن تصبّان في خانة الترحيل نفسها. وإذا كان حديث ترامب، في جوهره، لا يرجّح أيّ فرضية على أخرى من الفرضيتين المذكورتين، فإن إسرائيل، بفاشيّيها العلنيين أو غيرهم من اليمين والوسط وحتى اليسار، لن ترفض، في حال استطاعت، ترحيل الفلسطينيين، وتحمّل تبعات ذلك؛ علماً أن رفض الفكرة والتعاطي معها باستخفاف، مردّهما إلى أنه لا قدرة لإسرائيل على تطبيقها ربطاً بالتداعيات الخارجية والداخلية لها، وتقلُّص الفائدة منها مقابل ثمنها العالي. لكن إذا جاء الاقتراح من الجهات التي كانت تل أبيب تخشى ردّ فعلها، فلن ترفض الهدية.
بناءً عليه، هل باتت إسرائيل الرسمية، الآن، أقرب وأكثر إصراراً على «تحطيم» وقف إطلاق النار، ومنع العبور من مرحلته الأولى إلى الثانية؟ الواقع أن نتنياهو وأعضاء ائتلافه يريدون ذلك، لكنهم لم يكونوا قادرين عليه، فيما يوفّر حديث ترامب لهم أملاً معتداً به، باستئناف الحرب قبل استكمال تنفيذ التزاماتهم، وربّما أيضاً استئناف التطلُّع إلى أهدافهم الابتدائية، وعلى رأسها ترحيل الفلسطينيين من غزة. وفي المقابل، على إسرائيل، كما على أميركا نفسها، أن تقرّرا ما إذا كان بإمكانهما احتواء تبعات ترحيل الفلسطينيين إلى الأردن على استقرار المملكة ومستقبل نظامها، باعتبار الأخيرة جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي الإسرائيلي. وينسحب الأمر نفسه على الجانب المصري، الذي لا يتحمّل استقراره الهش أيّ وافدين يغلب عليهم الطابع «المتطرّف» لأعداء النظام.
في هذا الوقت، يُفترض برئيس الحكومة الإسرائيلية أن يصل إلى واشنطن للقاء ترامب، في زيارة تُعدّ نظرياً بروتوكولية للتهنئة بتنصيب الأخير، على رغم كونها حسّاسة ومفصليّة، وستكون مناسبة للبحث في الحرب ومصيرها ومصير قطاع غزة والترتيبات السياسية والأمنية التي تليها، وأيضاً «سلّة التهديدات» التي تواجه إسرائيل في الإقليم على اختلافها. فهل تُبلور الفاشية الإسرائيلية في خلال ذلك خطّة عملية لتحقيق رؤية ترامب بخصوص غزة؟ القدر المتيقّن هو أن محرّكات السياسات والاستراتيجيات الإسرائيلية، تغيّرت كثيراً في السنتين الماضيتين، وما كان من المسلّمات، لم يَعُد بالضرورة هكذا، بما يشمل استراتيجية مواجهة التحديات والتهديدات، وقبول المخاطرة وتلقّي الأثمان، في سياق تنفيذ تلك الاستراتيجية.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :