أي ملامح للدولة السورية العميقة الجديدة

أي ملامح للدولة السورية العميقة الجديدة

 

Telegram

 

 يرى محللون أنه ربما يكرر الانتقال السوري النموذج التونسي، بحكومة انتقالية، ودستور جديد، وانتخابات حرة ونزيهة داخل دولة تشبه إلى حد كبير هيكل الدولة السابقة. لكن نوع الدولة الذي سيظهر، سيعتمد إلى حد كبير على رؤية قائد هيئة تحرير الشام أحمد الشرع الشخصية.

ويقول من يعرف الشرع إنه يسعى إلى إفشال ثورة مضادة. وضرب مثال تونس التي عادت فيها الدولة العميقة القديمة إلى الظهور للاستيلاء على السلطة من الحكومة المنتخبة ديمقراطيا.

وجاء في تقرير نشره موقع سيريا إن ترانزيشن (سوريا في طور الانتقال) أن الشرع يطمح إلى تجنب مثل هذه النتيجة بوضع أسس دولة عميقة جديدة في سوريا تعتمد على أربع ركائز رئيسية هي السيطرة على الجيش، وقوات الأمن، والاقتصاد، والعلاقات الدولية.

نموذج جيش جديد
أصبحت إعادة بناء القوات المسلحة على رأس قائمة أولويات الحكومة الجديدة. وتغيب التهديدات العسكرية الخارجية الكبيرة ويبرز دعم الدول العربية الرئيسية الحريصة على تحقيق الاستقرار في سوريا بعد النفوذ الإيراني.

وسارت العملية بسلاسة حتى الآن، حتى مع بعض العقبات. وعزز ذلك استعداد فصائل الجيش الوطني السوري المدعومة من تركيا للاندماج في وزارة الدفاع المشكّلة حديثا.

وشملت العقبات قرار وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة، ترقية المقاتلين غير السوريين إلى رتبة ضباط. وأثار خطواته ردود فعل قوية من القوى الإقليمية، وخاصة مصر.

إعادة بناء القوات المسلحة أصبحت على رأس قائمة أولويات الحكومة الجديدة

وكانت القاهرة غاضبة من تحول أحمد منصور، وهو من أشد المنتقدين للرئيس عبدالفتاح السيسي، إلى عقيد.

وشاب الجدل دمج قوات سوريا الديمقراطية والجماعات المسلحة من السويداء ودرعا في الجيش الجديد. وقد تحتاج سوريا شهورا من المفاوضات لتسوية ما إذا كان يجب أن تُحل هذه الجماعات في الجيش الجديد (أي ينضم مقاتلوها كأفراد) أو أن تبقى فرقا تحافظ على هيكلها الخاص بها.

وقد يكون إنشاء حرس وطني على غرار النموذج الأميركي حلا وسطا مفيدا ضمن صفقة أوسع حول سلطة لامركزية. وسيكون مركز السلطة (بما في ذلك ضباط الجيش) تحت هيمنة شبه كاملة للعرب السنة، سواء منهم من قاتلوا ضمن هيئة تحرير الشام (وخضعوا للتدريب في الأكاديمية العسكرية في إدلب) أو ممن انتموا إلى الجيش الوطني السوري لكنهم يحظون بقبول الجماعة الجهادية السابقة. وسيشكل هذا انقلابا كاملا للوضع الذي كان قائما في ظل نظام بشار الأسد، حيث كان العلويون الموالون للأسد هم الذين يهيمنون على طبقة الضباط.

المسائل الأمنية
ألغت الحكومة الجديدة قوة الشرطة القديمة. ووسعت بدلا منها جهاز الأمن العام في إدلب، مع استمرار التجنيد بسرعة كبيرة. ومُنحت الأولوية للشباب من المحافظات الشمالية الثلاث (إدلب وحماة وحلب) حيث تتمتع هيئة تحرير الشام بقاعدة دعمها. وأصبحت سيارات هيونداي سانتافي التي تحمل لوحات أرقام إدلب في دمشق رموزا جديدة للقانون والنظام.

وتسود درجة ملحوظة من الهدوء جل المناطق، مع تسجيل بعض الاستثناءات في حمص والمنطقة الساحلية حيث استهدف الحراس أفراد الشبيحة. وأصبح السفر آمنا في جميع أنحاء البلاد، حتى خلال ظلام الليل. وتمكن الأمن العام من تحييد بقايا النظام السابق الذين حاولوا زعزعة الاستقرار. ويؤكد تعيين علي كدة، رئيس الوزراء السابق لحكومة الإنقاذ في هيئة تحرير الشام، وزيرا جديدا للداخلية، على درجة أهمية إنشاء قوة شرطة جديدة ملتزمة أيديولوجيا وتنظيميا بالحفاظ على النظام الجديد.

إدارة المخابرات العامة الجديدة تختلف عن وكالات استخبارات الأسد العديدة ونهجها الفوضوي

وأصبح الرئيس الإداري السابق لجبهة النصرة، أنس خطاب، هو الرئيس الجديد لجهاز الاستخبارات السورية. وتمكّن خلال السنوات الأخيرة من التسلل إلى خلايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وحراس الدين (القاعدة) وتفكيكها في الشمال الغربي.

وتتعامل دائرة المخابرات العامة الجديدة مع التهديدات الإرهابية المستمرة، كما تركز على المراقبة واعتقال الموالين للنظام السابق والمنشقين عنه المشتبه فيهم. لكن تحقيق التوازن بين ضمان الاستقرار الداخلي ومنع أي رد فعل عنيف من العلويين وغيرهم من الأوساط الموالية للأسد سابقا سيعتمد في النهاية على معلومات استخباراتية دقيقة.

وتختلف إدارة المخابرات العامة الجديدة عن وكالات استخبارات الأسد العديدة ونهجها الفوضوي، فهي تستعد لتكون محترفة وعالية التقنية وغامضة، بما يشبه جهاز الاستخبارات الوطنية التركي.

الانتعاش الاقتصادي
الحكومة الجديدة تواصلت مع رجال الأعمال السوريين المغتربين، وحثتهم على العودة والاستثمار

سيكون التعافي الاقتصادي مفتاح بقاء الحكومة الجديدة. لقد خفضت الحكومة التعريفات الجمركية في المناطق التي كان يسيطر عليها النظام السابق لتشجيع التجارة. لكنها أججت عن غير قصد الاستياء في إدلب، حيث كان التجار يتمتعون في السابق بالحد الأدنى من التعريفات الجمركية، بما وفّر لهم ميزة تنافسية على بقية سوريا.

واستمر ارتفاع الأسعار رغم تخفيضات التعريفات الجمركية، وعلى الرغم من الارتفاع الكبير الذي سجلته الليرة السورية (من 15 ألف إلى 11 ألف مقابل الدولار). وتقرر تقديم دعم مؤقت للسلع الأساسية مثل الخبز والوقود. لكن الإبقاء على هذه التدابير على المدى الطويل لن يكون ممكنا على المستوى المالي.

ويبقى تقديم الخدمات مقياسا رئيسيا للتقدم. وأمكن تأجير سفن توليد الطاقة من تركيا وقطر لتعزيز إنتاج الكهرباء. لكن تأثيرها لا يزال محدودا بسبب حالة الشبكة الوطنية المتداعية.

وورث الشرع دولة لم تشهد أي تحديث كبير للبنية التحتية منذ السبعينات. ويعود تاريخ شبكات الصرف الصحي في دمشق إلى الانتداب الفرنسي. ولاقت سوريا أخيرا وعودا بالاستثمار السعودي والقطري والتركي في مشاريع البنية التحتية الكبرى، لكن النفقات الفعلية ستعتمد على عوامل سياسية قد يستغرق تحققها شهورا أو حتى سنوات.

ومن المرجح أن يصر المستثمرون الخليجيون والأتراك في الأثناء على اتفاقيات الامتيازات التي غالبا ما ترتبط بارتفاع الأسعار.

وتواصلت الحكومة الجديدة، رافعة شعارات وطنية، مع رجال الأعمال السوريين المغتربين، وحثتهم على العودة والاستثمار. لكن رغبة القيادة الجديدة في الاحتفاظ بسيطرة الدولة على قطاعات رئيسية مثل النفط والاتصالات تتعارض مع آمال المستثمرين الذين يفضلون نهج السوق المفتوحة.

رجال الأعمال في دمشق وحلب يخشون أن يزيحهم منافسون أكثر تحالفا مع هيئة تحرير الشام

وفي الوقت نفسه، يخشى رجال الأعمال في دمشق وحلب أن يزيحهم منافسون أكثر تحالفا مع هيئة تحرير الشام. وحالت الاحتكارات التي تتمتع بها شركة وتد للبترول (التي يشغل مديرها الآن منصب وزير النفط) وشركة الاتصالات “سيريافون” (التي يرأسها أحد المقربين من القيادة الجديدة)، دون تهدئة المخاوف من تواصل المحسوبية مفتاحا للهيمنة على الاقتصاد في ظل النظام الجديد مثلما كانت في عهد الأسد.

ويقال إن الشراكة بشأن إعادة الإعمار بين الحكومة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي لا تزال مطروحة. لكن سوريا ستبقى عاجزة عن التقدم إذا لم تُرفع العقوبات الأميركية والأوروبية أو تُضخ مبالغ مالية ضخمة.

وسيستمر الشرع في تحقيق مكاسب صغيرة مثل الانخفاض الطفيف الأخير في أسعار البنزين. لكنه مُطالب على المدى الطويل بالوفاء بوعود إعادة الإعمار التي قطعها أو المخاطرة بمواجهة رد فعل شعبي عنيف.

ويمكن أن يدفع ذلك إلى الاحتفاظ بعناصر شبكة الأمان الاجتماعي الرئيسية (التعليم المجاني والرعاية الصحية مثالا) مع الحد من تدخل الدولة في السوق. وقد يكون من المفيد إنشاء مجلس استشاري اقتصادي وتجاري يشمل اقتصاديين مستقلين وشخصيات تجارية تساهم في توجيه السياسات. لكن ذلك سيتطلب ثقة في سوريين لم يكونوا من أنصار هيئة تحرير الشام.

تضافر المصالح
وجود ثلاثة حلفاء سنة أقوياء يضمن عدم التخلي عن سوريا اقتصاديا أو عسكريا، وإبقاء إيران بعيدا

يكمن مفتاح إضفاء الشرعية على النظام الجديد وترسيخه في الاعتراف الإقليمي والدولي. ومكّن احتكار الاتصالات الدبلوماسية عبر القناة الوحيدة لوزارة الخارجية السورية الجديدة من تحقيق نجاح كبير حتى الآن، حيث جسّدت دعوة منتدى دافوس الاقتصادي لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أحدث انقلاب في العلاقات الخارجية. وتبشر لقاءاته حكومة لم يتجاوز عمرها الشهرين.

وتعكس النوايا الحسنة التي أبداها الغرب ضمانا لمركزية سوريا في النظام الإقليمي ضمن التحالف الإقليمي الذي يهتم الشرع بتطويره، حيث يشكّل محور أنقرة – دمشق – الرياض – الدوحة الناشئ بالنسبة للشرع نظير محور القاهرة – دمشق – الرياض الذي كان قائما في عهد حافظ الأسد خلال التسعينات.

ويضمن وجود ثلاثة حلفاء سنة أقوياء عدم التخلي عن سوريا اقتصاديا أو عسكريا، وإبقاء إيران بعيدا. وسيكون الدعم السعودي والتركي حاسما لكسب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. كما أنه سيضمن أن تعود سوريا مجددا ملتقى للمصالح الإقليمية والدولية بدلا من ساحة معركة المصالح التي تحولت إليها خلال العقد الماضي.

دوائر الثقة
تتشكل طريقة حكم اليوم من المركزية المفرطة، حيث يتركز صنع القرار في دائرة صغيرة حول الشرع لا تتجاوز خمسة أفراد أو ستة. ولا يتمتع قادة هيئة تحرير الشام وموظفوها من ذوي الرتب الدنيا باستقلالية التصرف دون أوامر مباشرة من القمة، وهي مسألة يقول المطلعون إنها خنقت المبادرة والابتكار. كما استُبعد الذين لا ينتمون إلى هيئة تحرير الشام والذين كانوا سيدعمون النظام الجديد لولا المركزية. ويكمن سبب هذا النمط القيادي في كيفية تعامل الشرع مع مسألة الولاء الحساسة.

التركيز على الشريعة في تدريب الشرطة السورية يثير قلقا

لا تزال القيادة الجديدة مترددة بشكل واضح في الانخراط في السياسة التقليدية رغم التقدم الملحوظ في المسائل العسكرية والأمنية، وبعض النجاح على الجبهتين الاقتصادية والدبلوماسية. ولا تزال المناقشات حول الهياكل السياسية أو منظمات المجتمع المدني أو الانتخابات الحرة والنزيهة أو الإصلاحات الدستورية غائبة بشكل ملحوظ. كما لا تزال علاقة الدولة بالإسلام غامضة. وتعتمد القيادة على إشارات غامضة إلى إقامة “دولة قومية عادلة”، وهو مفهوم لا يزال غير محدد.

ولا يخلو هذا الغموض المتعمد من المخاطر. ويشكّل غياب رواية سياسية متماسكة (مهما كانت أيديولوجية) فراغا يمكن أن تستغله الفصائل المتنافسة ذات الرؤى المتباينة لمستقبل سوريا بسهولة. ويبدو التردد في التعبير عن هوية سياسية واضحة نابعا من الرغبة في تجنب تنفير المؤيدين الرئيسيين أو دعوة التدقيق غير المرغوب فيه من الغرب.

ويخاطر النظام الجديد، الذي لم يحدد خارطة طريق سياسية منظمة لتوجيه المرحلة الانتقالية في سوريا، بتعطيل سعيه للحصول على الشرعية والاعتراف الدوليين المهمين لتأمين الدعم المستدام من الأوساط المحلية والعواصم الغربية.

ويتواصل تفضيل الحكومة للغموض مع نشر مقاطع صوتية سطحية على وسائل التواصل الاجتماعي وشعارات عامة.

ويترك هذا العديد من السوريين (وخاصة الطبقة الوسطى المتعلمة)عاجزين عن تمييز الاتجاه الحقيقي للنظام. وقد يكون هذا متعمدا، بما يعزز مناخا من الشك لإبقاء المواطنين في حالة ترقب دائم. وتصبح النتيجة جمهورا مجزأ ومنقسما بين الذين يمنحون الأولوية للمخاوف الاقتصادية والمتعلقة بالخدمات والذين يخشون ظهور نظام استبدادي جديد فوق أنقاض الديكتاتورية القديمة، بتبني القول المأثور “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.”

إذا واصلت القيادة الجديدة تجنب المشاركة السياسية الجوهرية، فقد تشهد تآكل النوايا الحسنة التي تتمتع بها الآن

ويثير شبح نموذج الحكم المماثل لنموذج الحكم الصيني الذي يوفر فرصا اقتصادية ولكنه لا يوفر قدرا كافيا من الحريات السياسية قلقا عميقا لهذه الفئة. وتبنت العديد من الدول العربية في حقيقة الأمر هذا النموذج. لكن حالة سوريا تبقى مختلفة، حيث أرادت شريحة كبيرة من السكان أن يبشر سقوط نظام الأسد بـ”استقلال ثان” ويجسد لحظة تجديد سياسي حقيقي وإرساء للديمقراطية.

وقد يتصور الشرع أن الحفاظ على درجة من الغموض سيمكنه من تعزيز سيطرته على مؤسسات الدولة الرئيسية وبناء دولة عميقة تضمن الاستقرار السياسي على المدى الطويل. لكن تجربة سوريا المضطربة مع الديمقراطية في أواخر الأربعينات والخمسينات تسرد قصة تحذيرية لمخاطر إدخال الحكم الديمقراطي بسرعة ودون إطار مؤسسي داعم راسخ. كما تعزز تجارب الأغلبية السنية في سوريا على مدى السنوات الـ13 الماضية الحجة الرافضة لحكم الأقلية المفروض بالإكراه، وهو سيناريو لا يمكن منعه، في رأيها، إلا من خلال ضمان هيمنة طائفتهم داخل مؤسسات الدولة.

وتخاطر الدولة العميقة الناشئة بإبعاد الدوائر السنية الرئيسية نفسها بعد أن رأى العديد من السوريين في انهيار نظام الأسد فرصة لعهد جديد من الانفتاح السياسي والمساءلة. وإذا واصلت القيادة الجديدة تجنب المشاركة السياسية الجوهرية، فقد تشهد تآكل النوايا الحسنة التي تتمتع بها الآن، مما يعزز التصور المتزايد بأن التضحيات التي حدثت في السنوات الأخيرة لم تحقق سوى الاستبداد في ثوب جديد.

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram