النظام المدني العلماني: النموذج اللبناني

النظام المدني العلماني: النموذج اللبناني

 

Telegram

 

 

جهاد نصري العقل
المقدمة

كان من أبرز نتائج الثورة الفرنسية (مع التحفظ على نتائجها المأسوية)، التي شهدتها فرنسا عام 1789، وما رافقها من ارتدادات طالت بعض الأنظمة الأوروبية، الانتصار الفاصل في النزاع بين الإرادة الشعبية العامة والسلطة المستمدة من الله أو الدين، وما تبع ذلك من بروز أفكار جديدة لإصلاح المجتمعات كـ «العلمنة» و«المجتمع المدني»، أو «النظام المدني»، أو «النظام الجديد» في مقارنة له مع «النظام القديم» الذي سيطر على أوروبا في العصور الوسطى، التي أطلق عليها مصطلح «العصور المظلمة» التي سادت فيها العقيدة «التيوقراطية» أي «الدولة الدينية»، مع ما رافق ذلك من مواقف عدائية من المدارس العلمية التي بدأت بنقد بعض «المقدسات» ونقضها، وعلى سبيل المثال «التعليل الديني» لنشؤ النوع البشري

لقد ارتكز «النظام القديم»، قبل الثورة الفرنسية، على قاعدة «الدولة الدينية»، وايديولوجيتها الربط بين السلطة المطلقة والقدسية، حيث نجد الحكم فيها هو بالنيابة عن الله، لا عن الشعب. والمؤسسة الدينية، في هذا السياق تعتبر نفسها حاملة رسالة الدين، وحي الله وشرعة للناس في ما خص حياتهم الروحية والدنيوية. ومن الملاحظ ان هذه النزعة في المؤسسات الدينية ظهرت في جميع المعتقدات الدينية قبل ان يتخذ الدين شكله العصري المعروف حاليا، ويندفع بعد ذلك رجال الكنيسة وفقهاء القانون المقدس الى صياغة نظرية الحق الالهي للملوك، خصوصا على يد البابا غريغوار السابع، الذي شرع العقيدة «التيوقراطية» لسلطة الكنيسة وسلطان البابا في فصول دقيقة وواضحة، «ونقرأ في الفصل التاسع من تلك العقيدة أو الدستور المقدس أن» البابا هو الانسان الوحيد الذي يكون للأمراء تقبيل قدميه، ونقرأ في الفصل الثاني عشر منه أن «يسمح له أن يطيح بالأباطرة من عروشهم»، كما نقرأ في الفصل الثامن عشر أن «كلمة البابا لا يمكن أن يقومها انسان آخر، في حين ان له ان يبدي النظر في الأحكام الصادرة عن البشر الآخرين»، ونقرأ أخيرا في الفصل التاسع عشر أنه «لا يمكن للبابا أن يكون موضع محاسبة من أي كان».

وصاغ الراهب الفرنسي بوسويه نظرية حق الملوك المقدس، أو نظرية «الحق الالهي»، التي تستند الى أربعة أركان رئيسية، مفادها: الملوك هم خلفاء الله في الأرض يديرون شؤون مملكته، حلول الملوك محل الله، سلطتهم مطلقة، ولا يجوز للرعية ان تعترض على عنف الامراء، الا متى كان الاعتراض في شكاوى ملؤها الاحترام والتعظيم، من غير فتنة ولا شغب، وفي دعوات صالحة لهم بالرشد والهداية .

   إنّ تعلّق المؤسسات الدينية بالسلطة الزمنية وتشبث المراجع الدينية بوجوب كونها مراجع السيادة في الدولة، وقبضها على زمام سلطاتها شكل عقبة رئيسية في سبيل تحقيق الوحدة القومية والاجتماعية في الشعوب، وعرقل مسيرة تقدمها نحو الأفضل، مما أدى الى الثورات ومعارك التحرر الكبرى بين مصالح الأمم ومصالح المؤسسات الدينية المتشبثة بمبدأ الحق الالهي والشرع الالهي في حكم الشعوب والقضاء فيها، وكان الانتصار شبه الأخير فيها للارادة الشعبية التي استيقظت بفعل الدعوات الى انبثاق السلطة من ارادة الشعب لخدمة الشعب، وتجلت تلك الدعوة بالاتجاه نحو الدولة الديمقراطية القومية التي هي أرقى ما توصل اليه العقل الانساني، والتي تقوم على مبدأ حكم الشعب من نفسه وبنفسه ولنفسه، في اطار واسع من السيادة والحرية والاستقلال، وعنوانها الكبير«العلمنة» التي هي المدخل الفعلي لايجاد «مجتمع مدني» يسوده العدالة ويتجه نحو التقدم والرقي والسعادة والخير العام، للانسانية جمعاء.

نشأة فكرة العلمنة وتطورها.

 لم يختلف الباحثون حول لفظة العلمنة أو العلمانية، من حيث اشتقاقها اللفظي، انما بدا الخلاف واضحا من حيث موقفها من الدين، فهي، من جهة، علمنة ذات موقف ايجابي من المعتقدات الدينية الإيمانية، وفكرتها الأساسية، «فصل الدين عن الدولة»، أي عن السياسة، ومن جهة أخرى علمنة ذات موقف سلبي من الدين، وتدعو الى فصل الدين عن الدنيا، فالدين في منظارها هو «أفيون الشعوب»، وهي دعوة سافرة الى الالحاد، كما في العقائد الماركسية-اللينينية.

      العلمنة أو العلمانية، وتكتب بفتح العين أو كسرها، فالعلمانية (بفتح العين) مشتقة من العالم، والعلمانية (بكسر العين) مشتقة من العلم، وفي الحالتين، فإن الدولة العلمانية أو المجتمع العلماني أو المدني، هو حكما دولة الشعب على هذه الأرض، وأساسها المعرفة والعلوم من اجل تقدم الانسان وازدهاره ورقيه، وكما قال العلامة خليل سعادة: «الدين بالإيمان والعلم بالبرهان»، وهذا يفسّر لنا أن المعتقدات الدينية، خصوصا ما تعلق منها بالماورائيات لا تحتاج الى براهين علمية حسية، بعكس العلم الذي قوامه التجارب والبراهين المادية الملموسة، لاثبات صحته، وقد قال نيتشه: «من أراد الراحة فليعتقد، ومن أراد الحقيقة فليسأل».

      ان الاشتقاق اللفظي لمعنى العلمانية من العالم والعلم (جناس لفظي ظاهر في تشابه الحروف)، يقابله جناس معنوي في أن اللفظين يؤكدان على مقولة فصل الدين عن السياسة، وينفيان، نفيا قاطعا، في أن تكون الدولة، دولة دينية، فهي دولة الشعب والعلوم. ان الجناس الظاهر في اللفظين هو جناس معنوي سلبي، يقابله ايضا، جناس مفهومي ايجابي عميق، مفاده ان الدولة العلمانية هي الدولة العلمانية من حيث أنهما تقومان على مبدأ واحد، هو مبدأ الانسان في هذه الدنيا وما يتبعه من علوم، لتفسير الظواهر الطبيعية حتى لو تعارض ذلك مع ما ورد في المعتقدات الدينية.

      ظهر مصطلح العلمانية (Secularism) في اوروبا، في مطلع القرن السابع عشر، مع بداية ظهور الدولة القومية، وانبثاق أفكار الحرية، ويقابل هذا المصطلح كلمة (Laique) أي الزمنية، فالعلمانية تعني ما يحدث في هذا العالم، أي على الأرض، تمييزا لها لما في الماورائيات، الخاصة بـ«الروحانيات».

      والعلمانية ظاهرة تاريخية، متحركة، بمعنى أنها ليست مجموعة قوانين واجراءات جرى استنباطها في زمن معين لتصلح له فحسب، أي أن للعلمانية تاريخا ومقدمات ونتائج، وهذا ما سنعالجه لاحقا تحت عنوان: الدولة والعلمنة.

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram