لكل انسان من اسمه حظّ وفير. وأكثر، فالاسم أحياناً هو الذي يرسم المصير. والراهبة اللبنانية مايا زيادة تجسّد هذه المقولة التراثية خير تجسيد يوم نطقت بالجذور والأصول في الايمان بمبدأ الحرية والدفاع عن الوطن في زمن نحتفل فيه بالمرأة وتخوض فيه النساء حروباً لتحصيل الحقوق ورفع الغبن والضيم. لقد احتلت هذه الأخت التقية وما تزال شاشات التلفزة والتواصل الاجتماعي فقامت الدنيا ولم تقعد وأنفسهم اللبنانيون (كالعادة!) بين مؤيد ومعارض لها.
اختصرت مايا حكاية لبنان والشرق الأوسط بكلمات قليلات مجبولة بالوعي والحبّ والمناقبية. وذكرّتني بعشرات النساء والرجال في التاريخ الذين أصبحوا منارات تهدي الأمم وتربّي الأجيال أعجبتني بأسلوبها الهادئ والرزين والمشغول بخيوط الوجدان وحبّات الإنسانية. كما لفتتني كلمتها الاعتراضية المفعمة باليقين والثبات والشجاعة: “وقولوا إن الأخت مايا قالت!!”
فماذا يعني أسمها؟ وما هي الآية التي تفوهت بها وقسمت الناس بين من أثنى وأيّد وتأثرّ وبين امتعض وحدّد وتوعّد؟ قالت الأخت مايا جملتها المقبلة بكل بساطة وعفوية: “يجب أن نصلّي من أجل رجال المقاومة في الجنوب لأنهم رجال من لبنان ولأنهم رجال يتعبون ليحموا الوطن!”
لنتفق، قبل كل شيء، على ان الذين أيّدوا وامتدحوا وافتخروا همم أكثر بما لا يقاس من الذين غضبوا وعاقبوا وقاصصوا وفي المحصلة، تحوّلت هذه المؤمنة بتعاليم السيد المسيح إلى أيقونة وطنية تخبئ في حنايا الصدر والفؤاد، فقد علمت ببساطة بسيطة أن لا انفصام على الاطلاق بين الدين والوطنية، وأن الدين لله والوطن للجميع حسب المقولة التراثية. لقد ذكرتني هذه البطلة بالبطلة الفرنسية القديسة جان دارك التي قادت المعارك البطولية ضد القوات الإنكليزية والقوات الفرنسية المتآمرة مع الإنكليز وعرفت في القرن الخامس عشر بمنقذة فرنسا. وعندما فشلت في حربها ضد الإنكليز والفرنسيين العملاء قبض عليها واتهمت بأتباع الهرطقات ومن بين ها لبس ثياب الرجال والعمل تحت تأثير رؤى شيطانية وعدم لامتثال لأحكام الكنيسة. أدينت وحكم عليها بالإعدام حرقاً وهي حية فوق أكوام من الحطب والجمر ورحلت عن عمر تسعة عشرة سنة! وبعد أكثر من نصف ألفية من الزمان أي في العام 1920 كرّستها كنيسة روما قديسة.
تذكّرني مايا أيضاً بسميّتها الأدبية الوجدانية مي زيادة وأرجّح بقوة أن مايا سمّيت تيمّناً بسبب من قرابة فكرية وعائلية. واسم مي أو مايا قديم. فشعوب مكسيكو الحضارية في أميركا الوسطى دعيت بالمايا قبل أكثر من خمسة آلاف سنة. وكلمة “مي” في الأساس تأتي من الكلمة السومرية مي Me التي ترجمتها في الكتاب الخالدّ بالمفردة ميّة التي جمعتها على مئات والتي تعني الديسك الالكتروني الإلهي الذي يحتوي على برامج علمية في كافة الميادين. وميّة نجدها مثلاً في كلمتنا العربية المتعددة الاختصاصات “ما” وفي الكلمة الفرنسية “Mais” (مي) التي عادة ما تستعمل في بداية الجملة لتعبّر عن رأي جديد أو معارض أو مؤيد.
ثمة أم عجيب عند بعض اللبنانيين (ولا نجده في أي بلد آخر) وهو أن مقاومة الاعتداءات الإسرائيلية لا تعنيهم أبداً وكأن جنوب لبنان يعود بالجغرافية إلى جنوب السودان أو جنوب أفريقيا هذه هرطقة وطنية يجب أن تزول إلى الأبد من بعض الأذهان المسؤولة المريضة. وإذا فتّشنا في دولتنا العميقة عن السبب الجوهري في وضعنا السياسي المزمن والزري لوجدناه في الظروف التي أدّت إلى نشوء دولة لبنان. فمن يعرف البداية يعرف النهاية. أنشأ الغرب وخاصة فرنسا دولة لبنان لتلعب دوراً سياسياً في المنطقة ولتؤدي وظيفة في بلدان المشرق المجاورة. لقد أنشئ لبنان بلداً عنصرياً ذا طبقات عدة فيكون دائم التفجر في الداخل بحيث لا يشفى من جراحاته ولا يموت! علّة العنصرية الدينية والاقتصادية والمناطقية نخرت في جسم الوطن منذ الانتداب وحتى يومنا. لقد تعرّض البلد منذ الاستقلال الهش إلى سلسلة من الحروب القبلية ما إن تنطفئ حتى تعود النار إلى اشتعال أقوى وأوسع لن يسلم لبنان – من الزوال عن الخارطة السياسية – إلّا عبر ثورة دستورية قانونية تقضي على كل عنصرية من أي نوع كانت، هذه العنصرية الفئوية والدينية والاقتصادية التي شجّعت بجشع على رذائل التلاعب بالقانون والأنظمة والتي عاقبت كل من كان على خلق أصيل في تسلّم المسؤوليات العليا في الدولة.
لم تفعل هذه الأخت الراهبة سوى وأجبها الوطني الفطري الجيني الذي يقضي بحب الانسان لبلاده بدون شرط فأمثالنا العريقة المقدسة تردّد: “من لا وطن له لا دين له” وبالفعل لا نسمع أحداً يقول في الدنيا عكس ذلك، من لا دين له لا وطن له جاء في كتب الفيستا الزرادشتية المقدسة أن الله السيد قال لأبنة الأرضي ييمي (نوح في التوراة، وزيد سدرا في يشوم): “أتعرف يا ييمى؟! لقد وضعت في قلب الانسان حبّ بلاده وجعلته يتعلق بها بقوة حتى ولو لم تكن جميلة!
تذكّرني مايا بالمطرانين إيلاريون كبوجي وغريغوار حداد فقد اعتقلت سلطات العدو الإسرائيلي إيلاريون لأنها ضبطت في سيارته أسلحة كان يهرّبها إلى أبطال المقاومة. اما غريغوريوس فقد عزل عن كرسي المطرانية في بيروت وعاش في عزلة جبرية حوالي نصف قرن عقاباً على آية كتبها في مجلة آفاق مطلع السبعينيات من القرن المنصرم: “إذا كان المسيح ضد الانسان فأنا ضد المسيح” فهو تكلم بأصوله وجيناته المنحازة إلى إنسانية الانسان. وهو يعرف بعمق أن السيد المسيح ليس ضد الانسان. ولكن المطران الورع والغيور يعترض ضميناً على ممارسات المسيحية القديمة والحديثة ضد الإنسانية والحرية والعلم والتحرّر.
من منّا لم يسمع بالحرب التي شنّتها كنيسة روما على داروين ونظريته التطورية. وقد وضع في إقامة جبرية حتى مماته. كذلك أنهى غاليلي حياته في إقامة جبرية وكان يردّد مرات ومرات عبارته الشهيرة مع نفسه: “مع ذلك فالأرض هي التي تدور، وليست الشمس!” وبعد مضي 350 سنة قدمت الكنيسة الكاثوليكية اعتذاراً الى غاليلي في العام 1983. ويذكر أن هذا العالم كان راهباً. كذلك وعلى خلفية دوران الأرض حول الشمس سجن الراهب برونو جوردان ثمانية أعوام في أقبية الفاتيكان وحكم وأعدم بمحرقة بتهمة اعتقاده بوجود عوالم عاقلة في الكون مثل ما هو حاصل على كوكبنا!
لقد اعتبر المفكر السياسي أنطون سعادة لبنان “نطاقاً للفكر الحرّ”. فهل كان الوطن مساحة حرية وفكر وسلام أم كان ساحة للصراع المرير الذي لا يعرف هدنة؟! عجيب أم هذه الطوائف والقبائل والعشائر وعجيبة طرقها الجهنمية في الظلم والافتراء ومخالفة القانون التي تذكرنا بالقرون الظلامية الوسطى وبأزمنة الجاهلية وبمعالم التفتيش ولوائح الإنديكس! أما أن الليل أن ينجلي؟! مع كل ذلك ستظل الأرض تدور حول الشمس بعكس أفكار البعض وستدور الدوائر على الباطل والظلم والظلام والطغيان.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :