عندما اطلق الرئيس العماد ميشال عون وبعده مباشرة رئيس “التيار الوطني الحر” رسالتيهما ذات المضمون الواحد السلبي نحو “حزب الله” قبل بضعة ايام من بوابة تكتسب الكثير من المشروعية هي بوابة رفض نظرية “تشابك الساحات ووحدتها” والتي ترقى في ذهن الحزب الى مقام الثوابت والمسلّمات كونها بالنسبة اليه الجسر النظري الذي عبر عليه لإشعال فتيل المواجهات عند الحدود الجنوبية مع إسرائيل، وجد الحزب نفسه امام مهمة شاقة وعسيرة.
فإما ان يمضي قدماً في سياسة ادارة الظهر نحو التيار مع ما في ذلك الفعل من صمّ لأذنيه عن اعتراضات التيار المعلنة، فيمهد بذلك للقطيعة النهائية مع تجربة تحالفية نادرة امتدت نحو عقد ونصف عقد رغم خضوعها لاختبارات عدة قاسية، وإما المسارعة الى فعل يرأب الصدع ويحول دون تدهور العلاقات اكثر الى غير رجعة وفقدان الحليف الذي وصفه سيد الحزب ذات يوم بانه “الصخرة الصامدة” التي تتكسر عليها امواج الهجمات العاتية.
وبمعنى آخر، كان واضحا ان التيار قد ولج مرحلة اطلاق الانذار الاخير مضافا اليه ثلاثة عناصر جديدة حساسة هي:
– ان الصوت الذي اطلق هذا الانذار هو صوت مؤسس التيار الرئيس عون نفسه الذي له في وجدان الحزب موقع صدق وفرادة.
– ان المادة الاساسية التي استند اليها عون لاطلاق انذاره هي مادة حساسة تتصل بأسباب المواجهة التي يخوض الحزب غمارها على الحدود ويدفع من اجلها ثلة من صفوة مقاتليه.
– ان الانذار عينه يأتي في مرحلة تعلو فيها اصوات الاعتراض على خيار الحزب في جبهة الجنوب، وخصوصا في الساحة المسيحية.
وبناء عليه، كان الانذار “العوني” مدوّيا هذه المرة وترك جلبة وضوضاء يستحيل تجاهلهما.
كانت قيادة الحزب طوال نحو عامين على عِلم بحال الضيق والتململ التي تعتمل قيادة وقواعد حليفه التيار من جراء ديمومة العلاقة مع الحزب، وانه (التيار) بات يريد اي فرصة مناسبة ليخرِج نفسه من موجبات التفاهم المبرم مع هذا الاطار السياسي (الحزب) والذي أُخرج كما هو معلوم الى دائرة الضوء في حينه كحدث بالغ الجرأة في 6 شباط عام 2006. كذلك كان الحزب على دراية بالدواعي والاسباب التي توجب على التيار سلوكا متدرجا لطريق الافتراق مع الحزب سواء كان هذا الخروج إعدادا للدخول الى فضاءات سياسية اخرى يضع التيار في حساباته انها باتت ضرورة وحاجة ملحّة، او انه شاء فعلا انسحابا سلسا ومهذبا من تجربة سياسية صار على قناعة بانها باتت عديمة النفع، وان المضي بها امر عبثي ومضرّ يشي بقصر النظر عن قراءة التحولات الدراماتيكية.
في كواليس الحزب كان ثمة من يقدّر منذ زمن ان “العونية السياسية” لن يكون في مقدورها الاستمرار في الصمود عند هذا التفاهم والالتزام بموجبات الدفاع عن مندرجاته لاسباب عدة، منها ما هو قديم ومنها ما هو طارىء، وفي مقدمها:
– صعود الحريرية السياسية الى سدة السلطة بكل تجلياتها وصيرورتها جزءا عضويا منها، ما حوّلها من حركة متمردة متمرسة في الشارع الى شريك اساسي في لعبة السلطة ومكاسبها، وذلك في عملية محاكاة لتجربة الثورات التي انتهت الى القبض بناصية الحكم والسلطة ما يجعلها تخلع عن نفسها كل القناعات السابقة وتتحلل منها.
– في المقابل، فان الحزب وبعد دخوله الميدان السوري المفتوح منذ عام 2011 بمجموعات مقاتلة محترفة ساهم حضورها في قلب المعادلات على نحو صيّره قوة اقليمية عابرة للكيان ومتحللا الى درجة بعيدة من معادلاته وحساباته.
واذا كان التيار في حينه قد التزم جانب الصمت حينا والمجاهرة بالدعم حينا آخر وتغطية حرب جبال القلمون والسلسلة الشرقية، فان تطورا متفجرا مثل الذهاب الى اشعال فتيل المواجهات على طول الحدود مع الكيان تحت عنوان “تشابك الساحات” وحرب “الا سناد والدعم لغزة” هو بحد ذاته فعل كبير ينطوي على تداعيات واحتمالات لا يمكن للتيار التساكن معها او ادارة الظهر لها واعتبارها كأن شيئا لم يكن.
وعليه، ثمة معلومات تفيد بان “حزب الله” عندما اوفد رئيس كتلته النيابية وأحد الستة المقررين في مجلس شورى القرار في الحزب الى الرئيس عون شخصيا في الرابية، كان اسقط من كل حساباته فرضية انه ذاهب لاسترداد حليف كان اشهر اضرابا وعصيانا احتجاجيا عليه. والاغلب انه ذهب اليه لاعتبارات اخرى مضمرة تندرج كلها تحت شعار اخلاقي عنوانه العريض: ليعذر أحدنا الآخر إذا لم ننجح في استكمال الرحلة السياسية المثيرة التي بدأناها سويا عن حب ورضا ومصلحة للطرفين.
عندما يذهب “حزب الله” الى جهة سياسية كانت استنكرت للتوه وبلسان صريح شعار “وحدة الساحات” بل ودانته ادانة فصيحة عندما اعتبرته مؤذيا وبلا نتيجة، فضلا عن اعتباره انه خارج عن كل مندرجات التفاهم المعقود بينهما وعن حدوده، فانه لا شك يعرف ان امكان الاسترداد امر بالغ الصعوبة إنْ لم يكن مستحيلا.
لذا فان ثمة مقاصد اخرى شاء الحزب ان يسجلها ويحققها في اطار سعيه المكشوف والمزمن لتكريس مدرسة مختلفة في التحالف والافتراق، أو بمعنى آخر ترسيخ اسس تجربة سياسية غير مسبوقة بأخلاقيتها.
وبناء عليه، فالمُراد امران:
– فراق بإحسان على نحو يبقي خط اتصال، ورمي الحجة على الطرف الآخر قبل ان ينتقل الى إنفاذ ما هو عازم عليه.
– ان نصرالله والحزب عموما يسعيان بهذه المبادرة تجاه الرئيس عون الى تكريس شعار “إني باسط اليك يدي ولن اكون السبّاق الى سحبها ما دام الآخر ملاقيها ومصافحها”، وهي بمعنى آخر تطبيق عملاني لنظرية الوفاء بالعهد.
وهذا النهج سبق لسيد الحزب ان قدّم امثلة عليه، فهو يسارع الى شكر من وقف معه ذات يوم وسانده في الملمّات. ومعلوم ان نصرالله ارسل وفدا رفيعا الى الرئيس تمام سلام لشكره على ادائه المتوازن ابان ترؤسه حكومة تصريف الاعمال في اواخر عهد الرئيس ميشال سليمان، وبقي حافظا له هذا الجميل حتى عندما اقدم سلام على فعل اساء فيه الى الحزب في احدى المحطات.
وثمة ولاريب مقصد آخر اراده الحزب من خلال هذه المبادرة الاخيرة، وهي رسالة خاصة الى الساحة المسيحية. فمعلوم ان الحزب بذل جهودا استثنائية ليكون له رأس جسر في الساحة المسيحية التي بكّرت في ابداء الخشية من مشروعه واوصدت الابواب بإحكام امامه. لذا كانت حفاوته كبيرة عندما نجح بإبرام التفاهم مع “التيار البرتقالي”، خصوصا ان هذا التيار كان محاصرا يومها رغم انه كان كاسحا في ساحته وقد ابدى هو ايضا حفاوة مماثلة بابتداء العلاقة مع الحزب.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :