ادّعاءات باريس بالحرص على لبنان الذي تكابد للحفاظ على نفوذها فيه كآخر موطئ قدم لهيمنتها في العالم القديم، تتناقض و«الحميّة» الفرنسية لإنقاذ إسرائيل والضغط على اللبنانيين لتنفيذ مطالبها الأمنية والسياسية في الجنوب. وفيما لا يكاد يغيب الموفدون الدبلوماسيون والأمنيون الفرنسيون عن بيروت كرمى لعينَيْ بنيامين نتنياهو، وفي عزّ الأزمة المالية التي يغرق فيها البلد، تعمل شركة «توتال»، الذراع الاقتصادية والاستعمارية للدولة الفرنسية، على زيادة الضغوط، وتمارس مجدّداً، بعد تجربتين مشبوهتين في البلوكين 4 و9، سلوكاً سيّئاً في ما يتعلق بتنفيذ التزاماتها بالتنقيب عن النفط في المياه اللبنانية.الخميس الماضي، انتهت المهلة التي منحتها الحكومة اللبنانية ووزارة الطاقة لشركة «توتال» مع «كونسورتيوم» يضمّها و«ايني» الإيطالية و«قطر للطاقة»، لتعديل العرضين المتعلّقين بالبلوكين 8 و10 اللذين قدّمتهما الشركة الفرنسية مطلع تشرين الأول الماضي، إذ إن مجلس الوزراء، وبعدما شرب «حليب السباع» للمرّة الأولى في هذا الملفّ منتصف الشهر الماضي، وأخذ بملاحظات وزير الطاقة وهيئة إدارة قطاع البترول، منح «توتال» مهلة حتى منتصف شباط الجاري لتعديل عرضيْها لما يتضمّنانه من تسويف ومماطلة، لجعلهما متوافقين مع دفتر الشروط اللبناني. غير أن الشركة الفرنسية التي لم يعجبها قرار مجلس الوزراء بوضع حد لمماطلتها غير المبرّرة، لم تنتظر انتهاء المهلة، فردّت في 5 شباط الجاري، رافضة تعديل العرضين، ومحاولات وزارة الطاقة حماية الحقوق اللبنانية وتسريع عملية الاستكشاف والحفر للتقدّم في الملفّ، بدل السير على «تِكلة» توتال التي تضع سقوفاً زمنية تناسب أجندتها، لا حاجة لبنان.
وأمام تمنّع «توتال» الواضح عن تعديل العرضين، ردّت وزارة الطاقة على ردّ الشركة، بعد أيام، بالتأكيد على قرار مجلس الوزراء، والتلميح إلى أنّه في حال عدم توقيع العقود قبل انقضاء المهلة، فإنّ البلوكين 8 و10 لن يعودا من حصّة الشركة الفرنسية، وسيدخلان ضمن مجموعة البلوكات الأخرى المعروضة في دورة التراخيص الثالثة، المفتوحة حتى بداية الصيف المقبل أمام استقبال العروض.
ولم تصل جلسة النقاش التي عُقدت في 15 شباط، بين ممثلي الوزارة والشركة إلى أي نتائج، ولم تطلب «توتال» من الحكومة مهلة إضافية للتفكير بقبول الشروط المنطقية التي أُقِرّت أو إجراء تعديلات على العرض القديم والنقاش مجدداً مع الوزارة.
موقف الشركة يؤكّد ما كان يردّده معنيون بالملفّ، بأن «توتال» لم تتوقّع من مجلس الوزراء ووزارة الطاقة البقاء على موقفهما، وراهنت على انصياعهما لرغبات الشركة التي لا تريد إحراز أي تقدم عملي في الملفّ قبل عام 2028، عبر طلب مهلة سنة لتقرر ما إذا كانت ستجري مسحاً زلزالياً أم لا في البلوك 8، وثلاثة أعوامٍ أخرى للقيام بالمسح في حال قرّرت ذلك من دون أي إلتزامٍ بالحفر، والأمر نفسه ينطبق على البلوك 10 الذي طلبت الشركة مهلة عامين لتقرر ما إذا كانت ستحفر بئراً، وعامين آخرين للحفر، في حال قرّرت ذلك.
وتجدر الإشارة إلى أن «توتال» لم تنهِ مهمتها أصلاً في البلوك الرقم 9، ولم تقدّم حتى الآن تقريرها الفنّي، إذ توقّفت عن الحفر قبل أقل من 500 متر من رأس التجويف، أي ما لا يزيد على خمسين ساعة من الحفر، وكان من الممكن أن تقدّم للبنان تصوّراً علمياً مهماً عن الطبيعة الجيولوجية للقاع. وهي تعاملت مع البلوكين 8 و10 وفق القاعدة نفسها التي تعاملت بها مع البلوك 9 من دون وجه حق (تتحمّل الحكومة مسؤولية خطأ عدم زيادة حصّة لبنان في البلوك 9 بعد إجراء الترسيم)، إذ خفّضت حصة الدولة من هذين البلوكين رغم أن لا مخاطر تحيط بهما كما هي حال البلوك 9 عند تلزيمه. وقد تضمّن قرار الحكومة وفق توصية وزارة الطاقة تفاوضاً إلزامياً مع الشركة في حال إكتشاف كمّية أكبر وحقلٍ أكبر ممّا قدّرته الشركة في عرضها بشكل تناسبي يعطي لبنان حصّة منطقية من زيادة الربح إن حصلت في الإستكشاف.
وقد باتت الثقة شبه مفقودة بالشركة لدى غالبية المعنيّين بالملف، مع خلاصة عامّة مفادها أنها تريد فقط المماطلة وبيع اللبنانيين مسكّنات، كما تفعل في دول أفريقية كالكاميرون، فتضع يدها على الموارد لتكريس النفوذ السياسي وتماطل لسنوات قبل أن تقرر الاستخراج، وتكسب خلال هذا الوقت عقوداً أخرى وهيمنة على البلد المضيف.
وفيما تماطل «توتال» في لبنان وتعمل على محاولة شراء الوقت والسنوات لصالح العدو الإسرائيلي على المقلب الآخر من الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة، تبدو مشاريعها في قبرص قيد البحث الجدّي، بما يمكن إدراجه في خدمة التحالف الغازي القبرصي - الإسرائيلي، ما يثير شكوكاً حول النوايا الفرنسية والقطرية، والادّعاءات بالحرص على إخراج لبنان من أزمته الاقتصادية، خصوصاً أن ما يجري يشبه الى حدّ بعيد التعاون الفرنسي - القطري في العراق، حيث كانت فرنسا تسعى إلى الحصول على نفوذ سياسي مقابل وعود باستثمارات بـ 27 مليار دولار، قبل أن يتكشّف عجزها عن تحقيق هذه المشاريع من دون التناغم مع الأميركيين.
فهل تفكّر «توتال» وفرنسا بمصلحة لبنان فعلاً؟ أم أن وضع اليد على الموارد اللبنانية وتسويف الاستخراج إلى أجلٍ غير مسمى، يدخلان ضمن رؤية الشركة لأفول عصر الغاز، وانهيار أسعاره أخيراً، مع بدء إشعاع عصر اعتماد الطاقة على الهيدروجين الأخضر؟
ربّما على لبنان، الذي تناقش سلطاته الرسمية مع الموفدين الدوليين، وعلى رأسهم الفرنسيون، مآلات المعركة في الجنوب، فرض التنقيب والاستخراج كجزء من أي تهدئة مقبلة، طالما أن فرنسا تحديداً تأتي بالضغوط لتطبيق 1701 وضمان أمن إسرائيل، وليس مهماً عندها إن مات اللبنانيون قصفاً أو جوعاً.
كادر: رسائل نارية متبادلة
في 5 شباط الحالي، خاطبت «توتال» وزير الطاقة وليد فياض برسالة واضحة ومختصرة اطّلعت عليها «الأخبار»، تعلن فيها رفض شروط الحكومة، معتبرةً إياها «انحرافاً كبيراً عن تلك المُدرجة في العروض الفنّية والتجارية المقدّمة من مقدّم الطلب (أي الشركات)»، في دورة التراخيص الثانية. وأكّدت رسالة «توتال» أنه في «ضوء المعلومات المتوافرة حالياً، لا يمكننا في هذه المرحلة إلا تأكيد عروضنا الأولية للرقعتين 8 و 10 والتي ستظلّ سارية حتى 1 نيسان 2024 بما يتماشى مع بروتوكول المزايدة (دورة التراخيص)».
هذا «التمرّد»، دفع وزير الطاقة إلى الردّ على الشركة بعد أيام قليلة برسالة نارية مشابهة. وتضمّنت الرسالة التي اطّلعت عليها «الأخبار»، شرحاً مفصّلاً من قبل فياض، الذي اعتبر أن «قرار الشركة غير مرغوب فيه بإنهاء الإجراءات الخاصة بمنح الكتلتين 8 و10 بحلول موعد نهاية 15 شباط 2024 كما هو محدد في بروتوكول المناقصة (المادة 17.4)». وذكّر بـ «المناقشات العديدة التي أجرتها الشركة مع هيئة إدارة قطاع البترول قبل تقديم عرضها في 2 تشرين الأول 2023 من أجل مواءمته مع الإطار القانوني اللبناني القائم في محاولة لتجنب الانحرافات العديدة عن أحكام بروتوكول المناقصة»، مشيراً إلى استمرار الشركة في تضمين «الانحرافات» بشكل متعمّد في عروضها المقدّمة.
تتعمّد الشركة المماطلة في التنقيب في لبنان فيما تسرّع مشاريعها في قبرص في خدمة التحالف القبرصي - الإسرائيلي
وتكشف المراسلات، وقرار مجلس الوزراء، الإجحاف الذي تعاملت به «توتال» مع البلوكين 8 و10، ومع لبنان من خلفهما. وترد في رسالة الوزير تصحيحات للمعلومات التي قدّمتها الشركة في رسالتها، وكذلك في عرضها الأول، إذ إنه «لم يتم تقديم ضمان الشركة الأم في تاريخ التقديم، ولم يتم تقديم الوثائق/التحديثات المطلوبة للسلامة والصحة المهنية والبيئة والجودة، وجرى تقديم فترة استكشاف أولية تبلغ 4 سنوات بدلاً من 3 سنوات وفقاً لبروتوكول المناقصة، ووضع خيار «حفر أو التخلي» لمدة سنتين بدلاً من سنة واحدة وفقاً لبروتوكول المناقصة، وكذلك تقديم مفهوم جديد يُدعى (إجراء مسح زلزالي أو التخلي) لمدة سنة واحدة في الكتلة 8 والذي لم يُنص عليه على الإطلاق في بروتوكول المناقصة».
وذكّر فياض بقرار مجلس الوزراء، الذي عدّل بروتوكول المناقصة على سبيل التسهيل، بما يسمح للمتقدم بتقديم ضمان الشركة الأم والوثائق المطلوبة للسلامة والصحة المهنية والبيئة عند تاريخ التوقيع، وهو الأمر الذي كان يجب أن يتم في تاريخ تقديم الطلب (وفقاً للمادتين 5.7 و19.1 من بروتوكول المناقصة). لكنّه قدّم تعديلاً يقصّر مدة التخلي عن المسح الزلزالي إلى 3 أشهر فقط في البلوك الرقم 8، وفترة الحفر أو التخلّي لمدة سنة في البلوك الرقم 10، طالما أن المسح الزلزالي موجود. وأشار فياض إلى أن «مجلس الوزراء أضاف شرطاً إضافياً لصالح المتقدّم، حيث سيتم التفاوض على العرض التجاري ليس عند اكتمال تحليل بيانات بئر قانا ولكن عند تأكيد الاكتشاف التجاري»، وأن ما تسميه الشركة «تحريفات، هو في الواقع تعديلات قام بها مجلس الوزراء للرد بشكل إيجابي على التحريفات التي تضمنتها طلباتكم للكتلتين 8 و10».
نسخ الرابط :