الدكتور ادموند ملحم
الحديث عن الثقافة قد يطول ويتشعب لما تنطوي عليه هذه الظاهرة الإنسانية القديمة قدم الإنسان من معانٍ ومفاهيم ومن أنواع ومستويات ووظائف. ونحن هنا لسنا في معرض الخوض في مفهوم الثقافة وتطورها وفي أنواعها ومراتبها، بل ما يهمنا هو الحديث عن فعلها الحضاري ودورها الكبير في عمليات النهوض والتطور والتحديث الاقتصادي والاجتماعي والفكري والسياسي وفي ترقية المجتمع بشكل عام.
الثقافة بجوانبها المعرفية - الفكرية والإنسانية والأدبية والتاريخية والفنية والعلمية تُشكِّلُ شأناً أساسياً في نهضتنا القومية الاجتماعية، لا بل هي ماهيتها الأولى، كما يُستنتج من وصف سعاده لعقيدته في خطابه في الكورة عام 1937، إذ يقول: "نحن عقيدة ثقافية اجتماعية اقتصادية سياسية، نعمل لهذا المجتمع لتوحيده من جميع الوجوه".[1] ويؤكد سعاده أن مهمة حزبه القومي الاجتماعي هي "إيجاد نهضة ثقافية واحدة في جميع الدول السورية، التي تـجمعها في الأخير رابطة الـمصير الواحد ووحدة الـمصالح الاقتصادية والسياسية".[2] وفي رسالة الأرجنتين المنشورة في سورية الجديدة في سان باولو عام 1940، يشرح سعاده أن اهتمامه كان منصبّاً على "رفع مستوى الجوالي السورية الثقافي، وتوليد نهضة سورية ثقافية في المهجر"[3] و"إيجاد الصلات الروحية والثقافية الجيدة وتقوية العلاقات الودية بين الشعب السوري وشعوب العالم الجديد المتمدنة"[4]، وقد أثمر هذا الاهتمام تأسيس «الجمعية السورية الثقافية» بغرض "توليد نهضة ثقافية نفسية وبدنية"[5] الأمر الذي اعتبره سعاده "أعظم حادث اجتماعي جرى منذ بدء الهجرة السورية حتى اليوم".[6]
الحركة القومية الاجتماعية القائمة على عقيدة ثقافية أصيلة، توسَّلت، منذ نشأتها، الفعل الثقافي التنويري، التغييري، للقضاء على الأوهام والثقافة الاستعمارية والفوضى الفكرية والعقائد المهترئة والمثالب الفاسدة والجهل المتفشي والتفكير الانحطاطي، ولتحقيق يقظة المجتمع ونهضته وإظهار قيمه الجميلة ومثله العليا والانتقال به إلى حياة أفضل وأجمل. هذا الفعل الثقافي، فعل التربية والتثقيف ونشر الوعي لـحقيقة الأمة ولوحدة حياتها ومصيرها، شَكَّلَ جبهة من جبهات حرب العقائد التي أعلنها سعاده حين أطلق تعاليمه الجديدة معتبراً ان هذه الحرب الكبرى ستقرر المصير القومي كله. ويمكننا القول، أن الجبهة الثقافية لها أهمية كبيرة في حسم هذه الحرب العقائدية وهذا الصراع المميت بين سمو وانحطاط… بين عقيدة قوميّة جديدة بتعاليمها الواضحة وغايتها السّامية وبين عقائد زائفة قديمة بأساليبها وأفكارها الرّجعيّة وأغراضها الخصوصيّة المنحطّة. لذلك قال سعاده: "إنّ حرب العقائد الّتي أعلنّاها نحن حين أعلنّا تعاليمنا السّوريّة القوميّة الاجتماعيّة تتطلّب منّا جعل قضيّة الثّقافة في مقدّمة القضايا الّتي يجب أنّ نوليها اهتماماً خاصّاً، وأن نخطّط لها الخطط ونرتّب الصّفوف".[7]
نحن لنا ثقافتنا القومية الاجتماعية الجديدة، المميّزة، والمعبّرة عن تاريخنا وشخصيتنا ونظرتنا إلى الحياة والقيم وعن سمو آمالنا وأخلاقنا وجوهر نفسيتنا الجميلة وما يكمن فيها من خير وعلم وفلسفة وفن وجمال. ثقافتنا هي ثقافة المحبة والإخاء القومي... ثقافة الوضوح الكامل والوعي والمعرفة والتقدم التي تقوم على إرادة الانتصار على معوقات الحياة بالعلم وبالعقل الجمعي الحر... هي ثقافة الحرية والحق والعدل والمواقف الشجاعة ضد الظلم والباطل والاستبداد والاستعباد. وهي ثقافة هجومية تهاجم الفوضى والمفاسد والشعوذة والسياسة النفعية وكل الأوضاع الشاذة وتدافع عن حقوق الشعب وعن المظلومين والمقهورين والضعفاء والمضطهدين وتحرّك الهمم والضمائر. يجب علينا، كقوميين اجتماعيين مصارعين، أن نضطلع بدورنا الفعّال في مواجهة تحديات المرحلة وفي صيانة حياتنا القومية بتفعيل هذه الثقافة النهضوية الجديدة، القائمة على الخلق والإبداع والانفتاح والمناهضة لثقافة التخلف والفساد والتقوقع والانقسامات، ونعممها في أوساط الشعب في سبيل إقامة الحياة الجميلة الراقية وبناء المجتمع القومي الموّحد والمتنور... وكما يؤكد سعاده، "كل ثقافة أخرى، قبل تـمكين هذه الثقافة، تكون عملاً باطلاً".[8]
ما أحوجنا اليوم إلى هذه الثقافة الإيجابية المنعشة، ثقافة مبادئ النهوض والعمل والبناء... ثقافة الخلق والإبداع والخير والحق والجمال التي تسير بالأمة في طريق الوعي والبطولة والعز والـمجد! بهذه الثقافة القومية الاجتماعية الراقية، "التي هي أساس كل ثقافة"[9]، ننشئ جيلاً جديداً ونظاماً جديداً وجمالاً جديداً.
بقيادة سعاده، شَقّت الثقافة القومية الاجتماعية الجديدة طريقها وفتحت آفاقاً جديدة للفكر وأحدثت تغييراً "في مجرى الحياة ومظاهرها، وفي أغراضها القريبة والأخيرة"[10]، وأطلقت تياراً ثقافياً - معرفياً، فاعلاً في ميادين الأدب، والشعر، والموسيقى، وسائر فروع الفن، وأيقظت وجدان ألوف الأحداث والطلبة والنخب الفكرية والثقافية وحرّكت عوامل الحياة والارتقاء في فئات كثيرة من الشعب وفي أوساط أهل العلم والثقافة والأدب والفنون.
اليوم، ونحن في هذا الزمن الرديء... زمن الجهل والتفاهة والانحطاط وزمن القتل والهمجية والإبادة الجماعية، هل نتخلى عن مسؤولياتنا الثقافية ونتراجع لمصلحة المرجعيات الطائفية والعشائرية والاقطاعية وأصحاب المآرب الخصوصية ومشاريع التفتيت والهويات الفرعية؟
اليوم، ونحن في ظروف عاصفة يتعرّض فيها شعبنا في غزة الأبيّة للقتل والإبادة وتتعرّض الأمة كلها للغزو الثقافي الصهيوني بغية احتلال عقولنا وإحداث الهزيمة في نفوسنا ويستأنف التطبيع زحفه في كل الساحات والميادين حيث تتمدّد دولة العدو داخل الأنظمة العربية المتخاذلة وتقيم علاقات طبيعية معها مشرّعة الأبواب لكمّ من التداعيات والمخاطر، وسط هذه الظروف المصيرية، هل نتراجع وننزوي ونتخلى عن دورنا الريادي في التصدي لمصاعب المرحلة الحرجة الراهنة ومخاطرها على وجودنا ومصيرنا؟ هل نتهرّب من مسؤولياتنا الاجتماعية والثقافية ونستسلم للخمول والكسل والتراخي والجمود والاتكال على الباطل؟
نحن، الذين آمنا بمبادئ النهضة السورية القومية الاجتماعية ومناقبها الجديدة، لسنا جماعة انهزام واستسلام واقتناع بحالنا الراهنة واستحالة تغييرها... بل نحن أصحاب نفوس أبيّة، صادقة، وطافحة بمشاعر العز والكرامة والحرية والجمال.. نحن جماعة وعي وتفكير وإيمان وصراع، ولنا نفوس عظيمة، قوية، لا تتوانى ولا تأبه للصعاب، بل مستعدة دائماً للبذل والعطاء.. نحن لا نبيع "الشرف بالسلامة ولا العز بتجنب الأخطار"[11]، بل نؤمن بأن "الحياة والحرية صراع"[12]، و"نؤمن بنفوسنا قبل كل شيء، بحقيقتنا الجميلة الخيّرة والمحبة."[13] لذلك نحن جنود نهضة عظيمة. "جنود في كل عمل وكل اختصاص ـ جنود في الإدارة وجنود في الإذاعة وجنود في الثقافة وجنود في السياسة!"[14] وسنبقى رأس الرمح في قضية الوعي والثقافة وفي استنهاض قدرات الشعب وإصلاح أحواله.
يجب علينا أن نعيد جبهتنا الثقافية إلى حماوتها وفاعليتها وأن نوليها اهتماماً كبيراً لأنه بدون الثقافة المعجونة بالأخلاق لا تقوم نهضة الأمة ولا تنتصر. الثقافة هي سلاح للتنوير والإصلاح والتغيير والبناء. فلو عدنا إلى معاجم اللغة، لوجدنا أن كلمة الثقافة المشتقة من فعل ثقف تتضمن معاني التأديب والتهذيب والحذق والفطانة والفهم، فيقال يثقف ثقفاً وثقافة أي صار حاذقا خفيفا فطنا فهما أي ذا فطنة وفهم وذكاء. وثقفه تثقيفا أي سوّاه وقوّمه. ويقال ايضاً: ثقف الولد أي علَّمه وهذَّبه ولطَّفه. انطلاقاً من هذه المعاني، يمكننا توظيف الثقافة في خدمة الأهداف والمطامح النّبيلة كالتّربية والتّنوير وتصحيح الانحراف وتوجيه السّلوك الإنسانيّ وترسيخ الفضائل وتنشئة الأجيال وتهذيب النّفوس وترقية المجتمع... لذلك يقول سعاده إن “قصد الثّقافة أو التّربية هو دائماً تقويم الاعوجاج وتوجيه قوى الحياة نحو الأفضل".[15]
الثقافة، إذاً، هي فعل إنساني حضاري يبني النفوس ويصقلها وعياً وتهذيباً ومناقب ويحقق "تأليف القلوب وجمع فئات الأمة في مطلب واحد وعقيدة واحدة".[16] وهي فعل تغييري غايته سحق المثالب الانحطاطية وإحياء المناقب الجميلة في حياتنا وتجويد هذه الحياة وتنزيهها من كل معطّلات نموها وتطورها.
في هذه المرحلة المصيرية يجب أن تتضاعف مسؤوليتنا لأن نكون فاعلين ومؤثرين في مجتمعنا لا متفرجين ومتخلّين عن دورنا في توعية الناس وتنويرهم وانقاذهم من الرذائل والأحقاد والعصبيات الدينية المتنافرة ورفعهم إلى منزلة ثقافية سامية. ثقافتنا واسعة وإنسانية وعصرية وتحتوي على تراث كبير من العلوم والمعارف والفنون والآداب والشرائع والمنجزات الحضارية. هي ثقافة الحقيقة الواضحة والمعرفة العلمية والتاريخ الصحيح الغني بالمآثر.. ثقافة عريقة تعود بروحها ومفاهيمها وقيمها وأخلاقها إلى ذات الأمة وخطها الروحي - الثقافي الإبداعي. يجب علينا أن ننخرط في معركة الوعي والتربية والتثقيف لنقضي على الجهل والانحطاط والرقاد والموت وأن نُعمّم ثقافة الحياة الصّحيحة التي تحرّك العقول وتفجّر الطّاقة الخلّاقة في مجتمعنا وتؤهّله وتعدّه لمواجهة الأخطار بخطّة نظاميّة عقلانيّة تحيي حقيقتنا التّاريخيّة وتراثنا الإبداعيّ وتعمل لوحدة المجتمع ورقيّه…
يجب علينا أن نلهج بثقافة مبادئنا وقيمها السامية ونغرس تعاليمها الجديدة في النفوس لتنبت حباً عظيماً للأرض وللمجتمع، لأنه بدون الحب والولاء للمجتمع وبدون التفكير بخيره ومصالحه لا ترتقي الحياة الاجتماعية ولا ينعم المجتمع بأكمله بالحياة الراقية الجميلة.
مسؤوليتنا القومية والأخلاقية تحتم علينا أن نكون، كما وصفنا سعاده، "القوة المهاجمة لا المدافعة" وأن ننخرط في معركة تحرير المجتمع من كل المفاسد والمثالب والأمراض والعوامل التي تعرقل نموه وتقدمه... وهل يمكننا أن نحقق هذا الهدف
بدون خطاب العقل المتحرّر من رواسب الماضي وبدون الفعل الثقافي المبدع المعبّر عن نفوسنا الجميلة والهادف إلى إظهار قيم مجتمعنا الجميلة ومثله العليا؟
نحن مدعوون للفعل الثقافي الهادف للانتقال من زمن عتيق يُمَثّل الانحطاط والخمول إلى زمن جديد يُمَثّل النهوض والسير إلى الأمام نحو مثل عليا جديدة، ومن حالة حياة قديمة واهنة إلى حالة حياة جديدة قوية: حالة في جوهرها هي انعتاق من اليأس والتفاهة والخمول إلى الإيمان والتفاؤل والأمل بالمستقبل والتطلع إلى الطموحات والأحلام الكبيرة.
[1] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثاني 1935 – 1937، خطاب الزعيم في الكورة (صيف 1937).
[2] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، مشكلة الحرية تحلّ بالحرية.
[3] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الرابع، رسالة الأرجنتين الجمعية السورية الثقافية «طرد خالد أديب أخبار أخرى هامة» منشورة في سورية الجديدة، سان باولو، العدد 76، 1940/7/27.
[4] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثالث، سعادة يخاطب الجالية السورية في البرازيل، منشورة في سورية الجديدة، سان باولو، العدد 16، 1939/6/24.
[5] رسالة الأرجنتين الجمعية السورية الثقافية.
[6] المرجع ذاته.
[7] محاضرة الزعيم في مؤتمر المدرسين، النظام الجديد، المجلد 1، العدد 5، يوليو/ تموز ـ أغسطس/ آب 1948.
[8] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد السادس 1942-1943، "خطاب الزعيم في العيد القومي".
[9] المرجع ذاته.
[10] سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، بيروت، 1960، ص 49.
[11] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، ملحق رقم 2 خطاب الزعيم في بشامون 3/10/1948.
[12] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، ملحق رقم 5، خطاب الزعيم في دده الكورة، 17/10/1948
[13] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 22.
[14] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، المثالية الأولى (بقلم هاني بعل)
[15] أنطون سعاده، الإسلام في رسالتيه، الطبعة الرابعة 1977، ص 73.
[16] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد السادس 1942-1943، "خطاب الزعيم في العيد القومي".
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :