الدكتور ادمون ملحم
الفلسفة المدرحية التي جاء بها أنطون سعاده لا تعنى بالماورائيّاتِ ولا تقدِّمُ نظرياتٍ مجرّدةً وتصوّراتٍ غيبية وخياليّةً أو تعليلات افتراضيّةً، بل هي فلسفة إجتماعية جديدة تتناول الإنسان، بحقيقته الاجتماعية، والقيم الإنسانية وقضايا الوجود الإنساني وتطوره. وينبثق من هذه الفلسفة الشاملة "نظرات جديدة في الإجتماع بأشكاله النفسية والاقتصادية والسياسية جميعها"[1]، ويعتبرها سعاده "فلسفة كاملة في الإجتماع والتاريخ"[2] تُشَكِّلُ فتحاً فلسفياً جديداً "ومركز انطلاق نحو سمو إنساني جديد."[3] وفي تعريفه لهذه الفلسفة، يقول: هي "فلسفةُ التفاعلِ الموحَّدِ الجامعِ لقوى الإنسانيةِ"[4] القائلةِ بتفاعل العوامل المادية- الروحية في كلِّ معركةٍ إنسانيةٍ غايتُها سد الحاجات الحيوية والمطالب المادية والنفسية والارتقاء بالحياةِ وتجويدُهَا.
والفلسفة المدرحيةَ، بما تقدمه من نظراتً حضارية جديدة، يمكن إعتبارها فلسفة الحياة الجديدة الفاضلة والمصارعة في سبيل الأفضل والأسمى والأجمل لأنها تطمح بترقية حياة السوريين وبتنزيه حياة البشرية وتطهيرها من عيوبها وآفاتها وإنقاذها من ويلاتها وجموحها وأعدائها والارتقاء بها لتصبح هذه الحياة كريمة وفاضلة وخالية من مشاكل الفقر والجوع والظلم والاستبداد والعنصرية والكراهية والحروب البشعة وحافلة بالجمال والخير والبحبوحة والعدل والحرية والسلام.. فهذه الفلسفة تسعى لتحقيق هدفين:
أولاً، إصلاح المجتمع السوري المفكك والواهن والغارق في مستنقعات التخلف والتعصب والتقوقع والإنعزال بإحداث نهضة مجتمعية خلاّقة تجعل من هذا المجتمع مجتمعاً قومياً موحداً وراقياً له نفسية جديدة وهوية واضحة وقضية قومية مستقلة؛ وهذه النهضة الخلاّقة، تعتمد نظاماً اقتصادياً - إجتماعياً جديداً أساسه الحق والعدل، يزيل معوقات التفاعل الإجتماعي ويحافظ على وحدة المجتمع وسلامته وحقوقه ويقوي مناعته ويحصِّنها بعوامل الإنسجام والإلتحام و"الاتحاد المتين والتعاون القومي الصحيح" ويسير به في طريق النمو والإنتاج والتقدم ملبياً حاجاته ومصالحه ومحققاً مطامحه في الوصول إلى الحياة الحرة، الجميلة.
وثانياً، "إعادةِ النبوغِ السوريِّ إلى عملِهِ في إصلاحِ المجتمعِ الإنسانيِّ وترقيته"[5] وإنقاذه منْ تخبُّطِهِ ومشاكله وحروبه المدمِّرة وفي الوصول إلى حياة أجود في عالم إنساني أجمل تسوده أجمل وأسمى القيم الإنسانية والأخلاقية العليا.
باختصار، المدرحية ترمي لإعادة سورية إلى أصالتها وجوهرها، إلى دورها الطبيعي الحضاري، أمة ثقافية، خلّاقة، ومعطاء، تتفاعل مع الثقافات الإنسانية وتبني معها صروح الحضارة بمواهب أبنائها وتفوقهم وبما حصلوا عليه من علوم ومعارف وبما أنجزوه من إكتشافات وإبداعات... أمة مشِّعة بفكرها، متألقة بقيمها وفضائلها، وشاعرة بمسؤولياتها الإنسانية... أمة تدافع عن الحق والعدل والحرية وتهدي الأمم المسلوبة إرادتها والمغلوب على أمرها من قبل قوى الشر والظلم والاستغلال التي ألغت إرادة الشعوب ومواهبها وحوّلتها إلى شعوب مظلومة ومقهورة تعاني من أنظمة القهر والاستبداد والفساد والإذلال... فلسورية دور بطولي وحضاري وهو ان تكون معلّمة وهادية للأمم تحمل إليها القيم السامية والمناقب الجديدة ورسالة التوعية والإشعاع الفكري والروحي، وتقودها على طريق الصراع والتحرر والتقدم والسلام... وكما أكد سعاده في محاضرة له: “إن في الحياة السورية مثالاً أعلى هو العمل للخير العام في ظل السلام والحرية".[6]
هذه الرؤية الكامنة في الفلسفة المدرحية والتّواقة لحياة راقية ولعالم إنساني جديد فيه كل أسباب التقدم والعدل والحرية والخير والجمال تعكسُ سمو النفسية السورية الجميلة ومثلها العليا وقدرتها على الإبداع الفكري ومواجهة قوى الشر والباطل والظلم، وهذا ما أكده سعاده في كلمة له في القوميين الاجتماعيين، إذ قال: "إنّ فينا جوهر الأمة، وجوهر الأمة هو الخلق والإبداع والتفوق".[7]
الأساس العلمي للمدرحية:
فلسفةُ المدرحية تشرح الإرتقاء الإنساني الحاصل نتيجة تفاعلِ العوامل المادية-الروحية في مجرى الزمن داخل القطر الواحد أي ضمن البيئة الجغرافية-الطبيعية. وقد وضع سعاده كتابه العلمي: "نشوء الأمم" ليشرح مسار تطور الاجتماع البشري القديم قدم الإنسانية مبتدئاً من الإجتماع الأوليّ الوحشيّ، القائم على رابطة الدّم، ومنتهياً بالإجتماع الراقي – إجتماع الشعوب التي أخذت بأسباب الحضارة وأنشأت الثقافة.
ويمكن اعتبار "نشوء الأمم"، أساساً علمياً متيناً لعلم اجتماع الأمة، أو علم الإجتماع القومي، لأنه، كما يشير سعاده، كتاب " جامع مستوف الوجهة العامّة من نشوء الأمم بجميع مظاهرها وعواملها الأساسيّة."[8] وفي مقدمة الكتاب، يؤكد سعاده على المنحى أو الأساس العلمي للكتاب، إذ يقول: " ولما كانت حاجة النهضة القومية إلى هذا الأساس العلمي ماسّةً رأيت أن أدفع المخطوطة الوحيدة إلى المطبعة وهي في حالتها الأصليّة، كما خرجت من السّجن."[9] ويضيف: "إنّ نشوء الأمم كتاب اجتماعيّ علميّ بحت تجنّبت فيه التّأويلات والاستنتاجات النّظريّة وسائر فروع الفلسفة، ما وجدت إلى ذلك سبيلاً."[10] من هذا المنطلق، يمكن فهم كتاب "نشؤء الأمم" على أنه شرح علمي وافٍ لكيفية نشؤء الأمة ولتعريفها ومحلها في سياق التطور الإنساني. وفي هذا الشرح الضروري لضبط مفاهيم الأمة المشوّشة، والمصطبغة بمدلولات دينية وعنصرية، ولإيضاحها وتحديدها تحديداً واضحاً بالمعنى الاجتماعي العلمي العصري، استند سعاده على أحدث الحقائق الفنيّة والعلمية، حقائق الحياة والإجتماع، التي توصل إليها علماء الإجتماع والإنتروبولوجيا والإثنولوجيا والجغرافيا البشرية والجيولوجيا في زمانه، والّتي تنير داخليّةً المظاهر الاجتماعيّة.[11] كما اعتمد في بحثه مناهج علمية وصولاً إلى الحقائق التي توصل إليها. ومن هذه المناهج:
أ- منهج التسلسل التحليلي: اعتمد سعاده في بحثه منهجاً تحليلياً تاريخياً، إسترداديا، متسلسلاً، وواضحاً، لظاهرة الإجتماع الإنساني وتطوره وظروفه وحقائقه، عائداً إلى البدايات حيت كانت الأرض وليس عليها حياة. وتناول بالتحليل ايضا ظاهرة نشوء الدولة، كمظهر سياسي من مظاهر الإجتماع البشري، فتعّقب هذه الظاهرة منذ نشأتها، وحاول تحديد التغيرات والتطورات وصولاً إلى الدولة الديمقراطية القومية. وحلّلَ، أيضاً، ظاهرة الأمة، كواقع إجتماعي طبيعي، وحدّدَ تعريفها. كما ناقش سعاده ظاهرة القومية - الظاهرة النفسية الإجتماعية – التي وصفها بعصبية الأمة وأكَّدَ على طبيعتها الروحية-الشعورية، فقال: "هي الرّوحيّة الواحدة أو الشّعور الواحد المنبثق من الأمّة، من وحدة الحياة في مجرى الزّمان".[12]
ب- منهج الاستقراء: إعتمد سعاده منهج الاستقراء ليقرر ان الأمة، كل أمة، ليست سلالة واحدة، بل هي مزيج من السلالات. فبعد ان لاحظ إن الأفراد في سورية وكذلك في مصر والبرازيل والأرجنتين وأميركانية، لا يتشابهون في صفاتهم الفيزيائية: كلون البشرة ومساحة الجمجمة وحجمها وأوصاف الوجه والأنف والعينين وغيرها من الصفات، استنتج، عندئذ، أنّ الأمة، من الوجهة السّلاليّة أو من وجهة الأصل، لا تتكون من سلالة واحدة بل هي مركّب أو مزيج معيّن من السلالات والشعوب تماماً " كالمركّبات الكيماويّة الّتي يتميّز كلّ مركّب منها بعناصره وبنسبة بعضها إلى البعض الآخر ."[13] وبالتالي فإن "كل الأمم الموجودة هي خليط من سلالات المفلطحي الرؤوس والمعتدلي الرؤوس والمستطيلي الرؤوس، ومن عدة أقوام تاريخية."[14] وهذا ما دفعه ليعلن في المبدأ الأساسي الرابع من مبادىء حزبه، الذي يتبع منهج التسلسل التحليلي، أن الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري وهي النتيجة "الحاصلة من تاريخ طويل يشمل جميع الشعوب التي نزلت هذه البلاد وقطنتها واحتكت فيها بعضها ببعض واتصلت وتمازجت"[15] وصارت شعباً واحداً.
ت- منهج المقارنة: استخدم سعاده المنهج المقارن في دراسته للظواهر المذكورة أعلاه ليبرز أوجه التشابه والإختلاف في أشكال هذه الظواهر وأطوارها. وبإعتماده على هذا المنهج، استطاع سعاده معرفة تطور هذه الظواهر ومقارنة متغيراتها فقدّم التفسيرات الواضحة والتحليلات الفكرية والمعرفية بلوغاً للمفاهيم الواضحة والحقائق ذات البراهين المنطقية. والأمثلة عن جوانب المقارنة في "نشوء الأمم" نجدها في الفصول التالية:
أولاً، في الفصل الثاني، حيث يعرض سعاده لمسألة السلائل البشرية، والفوارق بينها، ولانتشار عقائد السّلالة عند جميع الأمم الحيّة ويقارن بين مختلف هذه العقائد القائمة على الوهم والعصبية الجنونية، مبيّناً كيف تشبّثت بعض الجماعات بنقاوة سلالاتها وادّعت "أنّ سلالتها أفضل السّلالات وأكرمها عنصراً".[16]
ثانياً، في الفصل الرابع، حيث يناقش خصائص الإجتماع البشري ويقارن من ناحية بين الاجتماع الإنساني وعالم الحشرات والحيوانات مظهراً الفوارق بينهما، ومن ناحية ثانية، بين نوعين رئيسيّين من الاجتماع البشري: الاجتماع الابتدائيّ ورابطته الاقتصاديّة الاجتماعيّة هي رابطة الدّم، والاجتماع الراقي ورابطته الاقتصاديّة الاجتماعيّة مستمدّةً من حاجات الجماعة الحيويّة للارتقاء والتّقدّم بصرف النّظر عن الدّم ونوع السّلالة.[17]
ثالثاُ، في الفصل الخامس، حيث يقارن سعاده بين المجتمع البدويّ أو المتوحش وخصائصه والمجتمع العمراني أو المتمدّن، وخصائصه. كما يقارن بين الثقافة الأولية ومزاياها والثقافة العمرانية ومزاياها.
رابعاً، في الفصل السادس، حيث يركّز سعاده على نشوء الدولة وتطورها ويعتبرها شأنا ثقافيا، لا بل "أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلاً للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ."[18] ويقارن سعاده بين أشكال الدولة (الدّيموقراطيّة [Democracy] والأوطقراطيّة [Autocracy] والأرستوقراطيّة ([Aristocracy) ووظائفها. كما يتناول أطوار الدولة ومرتباتها مقارناً بين:ً الدولة التاريخية والدولة الاستبداديّة والدولة المدنيّة والامبراطوريّة البحريّة والدولة الإقطاعيّة والدولة الدّينيّة والدّولة الدّيموقراطيّة القوميّة.
خامساً، في الفصل السابع، حيث يعرض سعاده لمصالح المتحد ويقارن بين المصالح المتشابهة أو الشّكليّة والمصلحة العامّة أو المشتركة، كما يقارن بين مختلف مصالح المتحد الراقي كالمصالح الحيوية والنفسية (العقليّة) والمصالح الفنية والمصالح الخصوصية والمصالح الاجتماعية. ويقارن أيضاً بين متحد القرية ومتحد المدينة ومتحد القطر وخصائص كل منها.
[1] سعاده، "العقيدة السورية القومية الإجتماعية وبحث الديمقراطيين عن عقيدة"، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 46، 15/6/1942
[2] أنطون سعاده، الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية، الطبعة الرابعة، بيرون، 1977، ص 102.
[3] نظرة سعاده إلى الإنسان، النظام الجديد، بيروت، المجلد 1، العدد 2، 1/4/1948.
[4] رسالة من الزعيم إلى القوميين الاجتماعيين، 10/01/1947، منشورة في نشرة عمدة الإذاعة بيروت، المجلد العدد 1، 30/6/1947
[5] سعاده في أول آذار، ص 58.
[6] أنطون سعاده، الآثار الكاملة- الجزء الأول، مرحلة ما قبل التاسيس، بيروت، 1975، ص 238.
[7] سعاده، ملحق رقم 5 كلمة الزعيم في القوميين الاجتماعيين، منشورة في صدى الشمال – صوت الجيل الجديد، بيروت، العدد 85.
[8] سعاده، نشوء الأمم، المقدمة، ص 15-16.
[9] المرجع ذاته، ص 15.
[10] المرجع ذاته.
[11]المرجع ذاته، المقدمة، ص 15.
[12] المرجع ذاته.
[13] المرجع ذاته، ص 157.
[14] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 66.
[15] المرجع ذاته.، ص 65.
[16] سعاده، نشوء الأمم، ص 29.
[17] المرجع ذاته، ص 58.
[18] المرجع ذاته، ص 90.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :