لم يحظَ كتاب صفية أنطون سعادة «الحزب والعائلة» بما يستحقّ من العناية والمراجعة. الكتابات عن تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي ليست قليلة لكنّ الجديد منها نادر. الكتاب يعطي صورة داخليّة من قبل أكاديميّة لبنانيّة (عليّ أن أقول «سوريّة» احتراماً لعقيدتها الصلبة) كانت أوّل لبنانيّة تنال دكتوراه في دراسات الشرق الأوسط من جامعة هارفرد. صفيّة سعادة، لمَن يعرفها، صريحة وغير مواربة ولا تساير لأي سبب. الكتاب الذي بين أيدينا سيصبح مرجعاً مهماً في تاريخ الحزب، خصوصاً أنها لم تراع محظورات سياسيّة أو عقائديّة أو شخصيّة. هي قالت الحقيقة كما هي. وأسلوب الكتاب رائع من حيث بساطة التعبير وسلاسة السرد. وصفية لديها الكثير من الأسباب للغضب وحتى الحقد ضد قيادات الحزب في المرحلة التي تلت إعدام سعادة، لكنّ شخصيّتها لا تحمل الأحقاد وإن كانت لا تنام على الضيم.
وصفية ترسم صورة لـ«الزعيم» تغاير الصورة المرسومة عنه من قبل أعدائه وحتى من قبل مريديه. يحلو لأعداء الحزب في العقائد والصحف الرجعيّة حشر الحزب في خانة الفاشية والنازية، مع أن النسق اللبناني للنازية تمثّل في حزب الكتائب الذي لم يخف رئيسه إعجابه بهتلر والحركة النازية عند تأسيسه الحزب مباشرة بعد زيارته لبرلين في عام 1936. سعادة كتب ضد وضع الحزب في خانة النازية وفنّد المغالطة. تقول صفية إن الزعيم كان يشارك في الحراسة والمداورة في المهام مثله مثل أي عضو. والذي يقرأ مراسلات سعادة في عزّ زعامته للحزب يلاحظ أنه كان متواضعاً بدليل منحه وقته ومشورته لطلاب في الحزب. كانت تلك العلاقة التي ربطت بينه وبين هشام شرابي في مرحلة دراسة شرابي الجامعية. وهو لم يبخل بوقته على الأعضاء. هل تتصوّر محسن إبراهيم مثلاً أو جورج حاوي وهما يمنحان وقتاً لطلاب أو يتراسلان معهم؟ مستحيل. الوحيد من قادة الحركة الوطنية الذي لم يكن يبخل بوقته للإجابة على أسئلة طلاب كان فواز طرابلسي، وأذكر ذلك بحكم التجربة الشخصية (لا أزال أحتفظ بإجابات طرابلسي المفصّلة والمطبوعة على آلة كاتبة لأسئلة متشعّبة طرحتُها عليه من منظور شاب يساري قلق من مسار وفساد الحركة الوطنية. وكنتُ قد اجتمعتُ بمحسن إبراهيم وطلبتُ إجابات عن تلك الأسئلة فما كان منه إلا أن أحالني على فواز طرابلسي. الأمين العام التنفيذي للحركة الوطنية مشغول بما هو أهم، مثل مناقشة العقيد القذّافي في الكتاب الأخضر في اجتماعات «فكريّة» كان العقيد يستلذّ في عقدها مع قادة الحركة الوطنيّة الذين كانوا يتلقّون منه العطايا المالية).
تقول صفية إنّ نمط زعامة سعادة كان يتناقض «جذرياً» (ص. 9) مع المفهوم التقليدي للزعامة. غادر الزعيم لبنان أثناء الانتداب فاستقرّ في البرازيل لكنّ «بعض اللبنانيّين الموالين للدولة الفرنسيّة» وشوا به فأُرغمَ على مغادرة البرازيل إلى الأرجنتين حيث استقرّ، وهناك ولدت صفيّة وأليسار. الزعيم كوالد كان مُشجّعاً وبعيداً عن صورة الأب البطريركي. وحدّثتني صفية كيف أنه كان يصرّ على التحدّث مع بناته بالفصحى، ما شكّل مشكلة لهم في المدارس اللبنانيّة المُتفرنِجة. عاد سعادة إلى لبنان في عام 1947. لم تكن صفية تدرك حجم زعامة والدها. اعتبرت حضور الجماهير في حياة الزعيم «اجتياحاً لطفولتها» (ص. 12) وهي على حق. تقول إنها لا تزال تهرب من الظهور فيما «يتهافت عليها» غيرها. أتخيّل القلق المستمرّ الذي عاشته صفية وهي تسمع عن أخبار نيّات اعتقال والدها من قبل السلطات الظالمة. كيف ينشأ الطفل وهو لا يعلم عندما يعود من المدرسة إذا كان الوالد يبيت في السجن أم في المنزل؟ عن اعتقال سعادة تقول صفية إنه كان «بتواطؤ أميركي/صهيوني، مصري (الملك فاروق)، لبناني وحزبي» (ص. 13). لم يدم لقاؤها الأخير مع أبيها لأكثر من ساعة واحدة.
وتتحدّث عن وقع قضيّة فلسطين على والدها. الذي يعود إلى كتاباته في تلك الفترة يلمس كم كان سعادة متقدّماً على كل قادة الأحزاب (اليساريّة واليمينيّة على حدّ سواء) في تقييمه للخطر الصهيوني (وكان تقييمه للخطر الصهيوني تقييماً استراتيجياً قومياً وسياسياً وليس دينياً على عكس ما يروّج أعداء سعادة الذين يعتبرون أن إشارته إلى اليهود تختصر كل عقيدة معاداته للصهيونيّة ولمشروعها في منطقتنا). لم يأخذ قادة الشيوعيّة في عالمنا العربي الخطر الصهيوني على محمل الجدّ، أو بنفس درجة الجديّة التي حملها سعادة. في عام 1947 كان فرج الله يكتب أن صراعنا مع الصهيونيّة هو «صراع سياسي». كتب سعادة مقالته الشهيرة «العروبة أفلست» في عام 1949 في مجلّة «كل شيء» (كان امتيازها يعود لمحمد بعلبكي قبل أن يشتريها منه خالي، وفيق العلايلي، ثم انتقلت بعده إلى محمد بديع سربيه). في تلك المقالة يقول سعادة: «ذهبت كيليكيا، ثم ذهبت إسكندرونة، ثم جاءت فلسطين، فكررتُ نداءاتي... لم يجتمع العالم العربي أمةً واحدة في فلسطين، وكرّت سبحة التسويات بين الدول العربيّة و»إسرائيل»».
تحليل صفية للمرحلة التي سبقت اغتيال سعادة في لبنان منطقيّ، ويرد فيه أن رياض الصلح (الذي كان مطّلعاً على المفاوضات الصهيونيّة-السوريّة)، «قرّرَ التخلّص منه»
وتحليل صفية للمرحلة التي سبقت اغتيال سعادة في لبنان منطقيّ، ويرد فيه أن رياض الصلح (الذي كان مطّلعاً على المفاوضات الصهيونيّة-السوريّة)، «قرّرَ التخلّص منه» لأن الحزب تناقض مع مشروع التسوية الذي كان رياض الصلح جزءاً منه (عندما واجه الإعلاميّون رياض الصلح بعد اجتماع للقادة العرب في القاهرة قبل أشهر من النكبة، طمأنهم إلى وجود خطة سريّة. يرد ذلك في مجلة «المصوّر» المصرية). لم يكن إعلان سعادة للثورة نابعاً من إيمانه بالنصر بقدر ما أنه شعر بأن ذلك هو خياره الأخير نظراً إلى حجم الصعاب أمامه.
الصراع على خلافة الزعيم كان أبعد ما يكون عن العقيدة التي تركها سعادة. تتحدّث صفية عن صراع بين «الشوام» و«أمناء الكيان اللبناني». وتقول إن جورج عبد المسيح فاز بالزعامة لأنه الوحيد الذي كان عاطلاً عن العمل (ص. 23). تقول عنه إنه «حكم الحزب على الطريقة الستالينية والقبليّة معاً: حكم مطلق، وإيديولوجية شمولية تجرف الخاص وتدمجه بالعام، ومنها إلغاء عائلة أنطون سعادة وسحقها باسم المؤسّسة الحزبيّة، واستعمال العنف لإسكات الأصوات المناوئة» (ص. ٢٤). الأغرب في قصّة صفيّة أن عبد المسيح هذا استولى على عائلة الزعيم. هو احتجز أبناء العائلة رهائنَ تحت إمرته باسم العقيدة ولم يكن هناك اعتراض من أفراد الحزب. عانت العائلة الأمرّين وهي تعيش في ضيق تحت سلطة طاغية (بالمعنى السياسي والشخصي). كان يصفع صفيّة عندما تعترض على ظلمه. كانت تختبئ في الحمام كي تتجنّب عنفه. كيف لم نكن نعرف هذا الجانب من تاريخ الحزب؟ كيف ليس هناك من مراجعة حزبيّة رسميّة تصدر إدانة تاريخية لمرحلة جورج عبد المسيح؟ أصبحت أرملة سعادة رهينة لعبد المسيح يستخدم وجودها في المنزل الذي اقتحمه مصدراً لشرعيّة زعامته. فقدت العائلة خصوصيّتها وحوّلها عبد المسيح إلى أداة عامّة. وكان بعض القوميّين يوافقون عبد المسيح على سلوكه فيقولون لصفيّة عن الزعيم: «هذا ليس والدك. هذا والدنا» (ص. 27).
لا تبالغ صفية عندما تصف مرحلة قيادة عبد المسيح (1949-1955) بأنها كانت مرحلة ابتعاد الحزب عن التقدمية والتغيير وتحويله إلى «طائفة مغلقة» (ص. 30). تحسّنت ظروف عيش العائلة في مرحلة أسد الأشقر. تتكلّم صفية عن مرحلة دراستها في الـ«كوليج بروتستانت» وكيف أن المعايير كانت طبقية في الحكم على التلميذات. كما عانت من ثقافة احتقار اللغة العربية في المدرسة. وعندما وقع الانقلاب، وفتح فؤاد شهاب الباب واسعاً أمام عمليّة اضطهاد ماكرثيّة ضد القوميّين أو المتعاطفين معهم (لم تتّسع سجون لبنان للمضطهدين فجمّعوهم في ميدان المدينة الرياضيّة)، ألقت أجهزة فؤاد شهاب الإصلاحية القبض على تلميذة الجامعة، صفية سعادة. سمعت صفيّة أصوات التعذيب فيما لا يزال دعاة فؤاد شهاب يتحدّثون عن بناء الدولة (نعمل أنا وبدر الحاج على تجميع كتاب يوثّق لحملات اضطهاد القوميين الوحشيّة من قبل فؤاد شهاب).
تتحدّث صفية عن تغيّر تركيبة الحزب بعد تولّي إنعام رعد الرئاسة في عام 1975، فباتت الميليشيا هي عماد الحزب بعد أن كانت الطبقة الوسطى هي الأساس (ص. 53). وقبل الحرب، كان التمويل يعتمد على تبرعات الميسورين في الحزب، لكن ذلك تغيّر في زمن الميليشيا وأصبح التمويل يرد من أنظمة وقضى على استقلاليّة القرار. رعد كان أداة بيد عرفات، وقريباً جداً من النظام الليبي. رافقت صفيّة مجموعة من الإعلاميّين الغربيّين في جولة في المخيّمات الفلسطينية في لبنان وعمان فهالهم ثراء حركة «فتح» وذكوريّة القيادات فيها (ص. 57). لاحظت صفية أمراض منظّمة التحرير التي انتقلت من عمان إلى لبنان: «انفلاش» ظاهر ونزعة انتصاريّة لا تعتمد على عناصر قوة. أبدت خوفها من حصول مواجهة أردنيّة-فلسطينيّة، فأجابها المسؤول: «نحن على أتم الاستعداد ولدى المنظمة 50 ألف مقاتل» (ص. 58). عبّر قادة المقاومة الفلسطينيّة عن نفس نزعة الثقة بالانتصار في عام 1982، قبل أسابيع من هزيمة محت المقاومة الفلسطينيّة من الوجود، بعد أن تحدّث قادة المنظمة عن ستالينغراد.
وتتحدّث صفية بصراحة عن تجربتها في جامعة هارفرد وتقارنها بالجامعة الأميركية في بيروت فتقول: «مثّلت سنوات الدراسة في جامعة هارفرد الأميركيّة أغنى تجربة فكريّة مررتُ بها. في تلك الجامعة، تجسّدت حريّة الفكر المطلقة آنذاك، وظهرت لي الجامعة الأميركية في بيروت كمدرسة ثانويّة مهمتها التلقين للحصول على الشهادات، لا جامعة للمعرفة بالمعنى الحقيقي» (ص. 60). هنا أختلف مع صفيّة بشدّة. صحيح أن الدراسة الجامعية هنا تُشعر المرء بالاختلاف بين تلقين الجامعة الأميركيّة في بيروت والتلقين هنا. لكن هنا تلقين أيضاً لكنه أذكى وأقل صفاقة وأكثر رسوخاً. كما أن الحريّة في هارفرد وغيرها ليست مطلقة على الإطلاق بدليل استمرار حملات قمع الأصوات المؤيّدة لفلسطين. لم تكن صفية تملك المال وعملت في مكتبة الجامعة لتغطية نفقاتها. نالت صفية الدكتوراه وتقدّمت لطلب وظيفة في الجامعة الأميركيّة في بيروت. كان كمال الصليبي صريحاً: «فأجابني أنه يرفض رفضاً قاطعاً توظيف نساء في الجامعة» (ص. 72). علّمت في كلية بيروت الجامعية (آنذاك) ثم في الجامعة اللبنانيّة. وصفية ثائرة في الحياة بكل أوجهها. وتعبّر عن يأس من انتشار العقليّة الذكوريّة في بلادنا حتى إنها فقدت الأمل في نساء بلادنا إذ تقول: «اكتشفتُ بعد مضي سنة على حواراتنا أن النساء في بلادي غير مستعدات للتضحية في سبيل الحصول على حقوقهن» (ص. 74). هذا تعميم ظالم.
عاشت صفية حرب تموز ونقلت أن الناس في سن الفيل انقسموا بين دعم إسرائيل ودعم المقاومة (أنصار التيّار). وعن مؤيّد لفؤاد السنيورة قالت: «كان يملؤه الحقد الطائفي ويفرح ضمنيّاً لأن «إسرائيل» تقتل من هم من غير طائفته». وعندما دمّرت إسرائيل جسوراً في «المناطق المسيحيّة» ثارت واحدة وقالت: «ما هذا؟ لماذا يقصفوننا؟ نحن مسيحيون ولا دخل لنا بهذه الحرب». صفيّة تنقل الحقائق كما هي، بلا تجميل. هذا الكتاب أساسي في تاريخ الحزب والحرب.
نسخ الرابط :