لا حاجة إلى كثير من الجهد لتخيل حال مواقع التواصل الاجتماعي ومقدمات نشرات الأخبار والمنصات الليبرالية المموّلة من الأميركيين والأوروبيين والبرامج التلفزيونية، الفكاهية والسياسية والفنية وحتى تلك المخصصة للطبخ، لو كان جو صليبي، المتهم بالاتجار بالبشر وبيع الأطفال، ناشطاً في التيار الوطني الحر أو منتسباً إلى حزب الله. أما وأن صليبي رئيس لمركز بلدته (الهلالية - شرقي صيدا) في القوات اللبنانية، فقد مرّ الخبر مرور الكرام، بما فيه جريمة الاتجار بالبشر وبيع الأطفال عبر جمعية «إنسانية» أخرى من تلك التي لا تبغي الربح، وتتطلّع بكامل جوارحها إلى تحقيق المنفعة العامة.
بالطبع، لا ينبغي أن يكون اتهام أي مسؤول أو ناشط حزبي بجريمة أخلاقية أو جنسية أو مالية سبباً للهجوم على حزبه طالما لم تثبت أي علاقة للحزب بالجريمة أو بالضغط السياسي لتبرئة المتهم.
ولكن، في السنوات القليلة الماضية، عمدت الماكينة الممولة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى تفريغ الحملات السياسية من أي مضمون اقتصادي وسياسي واجتماعي، وحصرها بقضايا تتعلق بسلوك شخصي لمحازب من هنا أو هناك. وإذا كان واجباً الإضاءة على قضايا من النوع الذي نحن في صدده، إلا أن المشكلة تكمن في اختيار بعضها، تبعاً لانتماء المتهمين بارتكابها، لتحويلها إلى قضايا رأي عام، فلا يعود مهماً مصادرة أصحاب المصارف لودائع اللبنانيين، بل الأهم تسقّط فضيحة شخصية ما لناشط في هذا الحزب أو ذاك. ولا يعود موقف هذه الجهة السياسية أو تلك من الصندوق السيادي أو الكابيتال كونترول أو الإصلاح القضائي أو مصير الودائع المصرفية أو خطط النهوض الاقتصادي هو المهم، بل موقف هذا النائب أو ذاك من هذه القضية الاجتماعية أو تلك. وحتى القضايا الاجتماعية الأساسية كالقانون الموحد للأحوال الشخصية تبقى بعيدة عن التداول لمصلحة حوادث فردية تتعلق بقضية حضانة هنا أو تعنيف زوجي هناك. والأمر نفسه في ما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان، بكل ما تشمله من الحق في التعلم والاستشفاء والتعبير وغيرها، والتي يجري إهمالها بالكامل لمصلحة حقوق خاصة بشرائح محددة تملك قدرات مالية وإعلامية لتحصين نفسها بمجموعات دعم تفتك بمن يقف في وجهها.
في خضم الأزمة الهائلة التي تعتدي فيها المنظومة على كل ما للإنسان من حقوق، تركّز هذه المنصات على اعتداء همجي من مواطن واحد على «هامستر» أو موكب طيور مهاجرة، من دون أن يعني ذلك أبداً الاستخفاف أو التساهل مع هذه الجرائم. يمكن في هذا السياق فهم تنظيم حملات لتعديل القوانين الخاصة بتجريم المثلية في ظروف طبيعية، ويمكن تفهم وجود نشطاء يعملون لتعديل هذه القوانين حتى في الظروف غير الطبيعية طالما تمثل هذه القضايا أولوية بالنسبة إليهم، لكن ما لا يمكن فهمه أو تفهمه هو أن تكون المثلية هي العنوان الرئيسي بالنسبة إلى هذه المنصات الإعلامية في خضم أكبر أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية وتربوية واستشفائية عرفها البلد. وبدل أن يقيّم السياسيون على أساس مواقفهم من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يصبح التقييم مرتبطاً حصراً بموقفهم من اللاجئين أو المثليين أو المتحوّلين جنسياً، أو حق الطفل والمراهق في تحديد هويته الجنسية. هناك من يود العيش في خضم أكبر أزمة اقتصادية عرفها البلد كأنه في أحد مسلسلات «نتفلكس». ليس مهماً حرمان آلاف المصابين بالأمراض المزمنة من الأدوية، ولا حرمان آلاف الموقوفين من المحاكمات السريعة العادلة، ولا البهدلة التي يتعرض لها كل من يقصد فرعاً للضمان الاجتماعيّ لإتمام معاملة، ولا الاعتداءات المتواصلة على الأملاك البحرية والنهرية وما تبقى من ملك عام؛ المهم هو اعتداء صحافيّ على آخر أو تحرّش مديرة مصرف بزبونها. أعيدت برمجة التلفزيونات والإذاعات والمنصات لإفراغ المجتمع بكامله من القضايا الأساسية الكبيرة لمصلحة قضايا أساسية، لكنها أصغر من حيث الحجم.
أعيدت برمجة وسائل الإعلام والمنصّات لإفراغ المجتمع من القضايا الأساسية لمصلحة قضايا أساسية أقل أهميّة
الموقف من القوات اللبنانية لا يجب أن يقدمه أو يؤخره سلوك إجراميّ لأحد المنتسبين للقوات، طالما أن لا علاقة للقوات به أو بتغطيته من قريب أو بعيد. يقدم الموقف من القوات ويؤخّره أداء وزرائها في العدل والصحة والشؤون الاجتماعية الذين لم يتخذوا الاحتياطات اللازمة لحماية اللبنانيين على مشارف الانهيار الكبير؛ والذين لم يعارضوا التجديد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بل وقّعوا عليه في مجلس الوزراء؛ والذين لم يعارضوا الهندسات المالية لإنقاذ بعض المصارف من جيوب الودائع؛ والذين قفزوا من سفينة السلطة فور رؤيتهم لجبال النار بدل أن يتحملوا مسؤولياتهم في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. الموقف من القوات لا يحدده موقف مسؤول حزبي في بلدة لم يكن يعرف من عيّنه بنشاطاته التجارية الحقيرة، بل يحدده ما فعله نواب القوات اللبنانية (التي ترأس لجنة الإدارة والعدل) لحماية ودائع اللبنانيين أو إقرار الكابيتال كونترول والإصلاحات القضائية. وإذا كانت القوات تفاخر بحلولها أولى في نسبة تمثيل المسيحيين في الانتخابات النيابية الأخيرة، فإنه يمكن السؤال فوراً عما تقدّمه بعيداً عن الرشى الانتخابية الاستشفائية والتربوية لصمود من انتخبها اجتماعياً وتربوياً واقتصادياً في مواجهة الأزمة الخانقة. وهنا جرائم كبيرة هائلة تشارك فيها القوات عن سابق تصور وتصميم، تستوجب المساءلة اليومية والملاحقة والتحريض. أما «خزعبلات» المجتمع المدني والإعلام الممول من الأميركيين والأوروبيين، والتي تلهي الرأي العام عن الفساد الحقيقي للأحزاب بفساد محازب هنا أو هناك، فليست سياسة ولا حتى عاملاً مؤثراً على المدى البعيد بالرأي العام، بل مجرد «ذبذبات» آنية ليس لها أثرها على المدى البعيد. إذ يبدو الهدف إلهاء الرأي العام، لا تحقيق خروقات أو إصلاحات تشريعية: هؤلاء لا يكلّفون أنفسهم عناء تنظيم الحملات حيث يجب، وإقناع من يجب إقناعهم فعلاً، كما تفعل كل مجموعات الضغط في العالم، بل يكتفون بإحداث بعض الصخب غير المنظّم للحصول على التمويل الخارجي ومواصلة طريقهم من دون اهتمام بالنتائج.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :