تجارة الحرب.. ومجالس إدارتها!

تجارة الحرب.. ومجالس إدارتها!

 

Telegram

 

الفضل شلق*

الحرب سلعة، فيها قطاع عام هو الجيش وقطاع خاص هو المرتزقة. البروليتاريا التي تستخدم في انتاج الحرب هم الفقراء، الجنود، سواء في القطاع الخاص أو العام. اعتادت الدول احتكارها خوفاً من تمرد القطاع الخاص (المرتزقة)، لكن عصر النيوليبرالية جعلها شائعة، خاصة بين الدول الكبرى، وفي بعض الدول الاستبدادية. جيش المرتزقة يختلف قليلاً أو كثيراً عن الجيوش الموازية التي يمكن أن تكون من القطاع الخاص أو العام.

تستهلك الشعوب الحروب كما تستهلك بقية السلع. ما كشف هذا الأمر هو النيوليبرالية التي جاءت بالخصخصة كمرحلة عليا من مراحل الرأسمالية؛ ولا نعرف إذا كانت الابداعات الرأسمالية سوف تقود إلى شيء آخر بعد أن تنفذ الأغراض المتوخاة من النيوليبرالية، فتجد أشكالاً مختلفة من التوليفات من أجل بقاء الرأسمالية، التي تبدو حتى الآن أكثر إبداعاً من خصومها الذين يناضلون لإسقاط الرأسمالية التي جعلت معظم البشرية ضحايا لها.

لا بدّ من الدولة. هي الناظم للمجتمع. لكن على نظامها احتكار العنف لضبط ما يتفلّت من المجتمع ويخالف القانون والدستور. وتحتكر أيضاً مخالفة القانون والدستور. ومن يخالفه على غير ما تريد الدولة يسمى “فساداً”. الفساد أيضاً سلعة. هو من ضرورات الرأسمالية وله استعمالات أخرى.

تحضّر الدول نفسها للحروب، إلى جانب تدريب الجيوش، برسم سياسات جيواستراتيجية تفترض تهديدات خارجية، ربما كانت حقيقية أو موهومة. لا ندري كيف نُصنّف تهديد الناتو لجمهورية روسيا الاتحادية، وهماً كان أم حقيقة، لكنه على كل حال كان من أهم حجج روسيا لشن الحرب الأوكرانية. في الوقت الذي بشّر ايديولوجيو الدول الرأسمالية الكبرى بنظام عالمي جديد، يخلو من الحروب، خاصة الكبرى، إذ بنا أمام خطر الناتو على روسيا، واندلاع حرب موضعية على أوكرانيا. كان الناتو والامبرطورية الأميركية طرفاً في الحرب، بل حرّضا عليها وموّلا أحد أطرافها، وإن بقيا خارج ساحات القتال برغم أنهما زوّدا المقاتلين الأوكرانيين بالمال والسلاح. الحروب بالإنابة أو عن طريق الوكالة للغير، كثيراً ما تستخدمها الدول الكبرى، والأميركيون أكثر من الروس. لم يحسن الروس هذا التطبيق بعد.

الحرب بمثابة أدوات الإنتاج التي تنتج الخطط والسلاح وما تستهلكه الجيوش في القتل والتدمير. لها قيمة استعمال عند من يخوضها، وقيمة تبادل عند من يحرضون ويموّلون. فكأنهم يشترون الحرب في سبيل تحقيق أرباح، بالأحرى مغانم تكون مادية أو سياسية (توسيع مناطق النفوذ) أو استراتيجية. لا ننسى أن كثيراً من السلع التي تباع في الأسواق تفيد في استهلاك البشر. هم يستهلكونها وهي تستهلكهم.

كما أن الدولة إطار ناظم للمجتمع، وفي أحيان تكون إطاراً لحرب أهلية، فإن النظام العالمي هو إطار للحروب أو للسلام بين الدول. والحروب هي من أهم السلع التي يتم التبادل بها بين الدول العظمى (إن كان هناك أكثر من دولة عظمى واحدة) والدول العظيمى والمعظومة. والحرب جزء هام من الاقتصاد العالمي. والجنود هم بمثابة بروليتاريا في هذه الصناعة. ألوف مليارات الدولارات تنفق في القتال والتدمير. وألوف مليارات الدولارات تجنى من بيع السلاح وتزويد الجيوش بالمأكل والملبس، إضافة الى السلاح وهو أداة إنتاج القتل والدمار. مجالس الإدارة هي في قيادات الجيوش، من مؤسسات الأركان وغيرها. صحيح أن الجيوش تستخدم أساليب في التدريب، والعمليات العسكرية، والعقوبات، ومنح الجوائز، والميداليات، بشكل متشدد أكثر من الشركات التجارية، لكن الهيراركيات وتوزيع المواقع لا يختلف كثيراً، وإن كانت ضرورات الحرب تستدعي أساليب مختلفة في اختيار المواقع وتسميتها.

ما زالت الحرب تشكّل جزءاً كبيراً من الحياة البشرية، وتستهلك جزءاً كبيراً من موازنة كل بلد، صغيراً كان أم كبيراً؛ بيع أدوات الحرب يشكل جزءاً كبيراً من الاقتصاد العالمي؛ وما تهدمه الحرب يكون مصدراً للإعمار والنهوض الاقتصادي في كثير من الأحيان؛ ما تقتله الحرب يكون مصدراً للبطولة والنبالة؛ ضروراتها أدت الى إبداع وتطوير كثير من الأدوات التي نستخدمها في السلم، من ركوب الخيل إلى الانترنت؛ التاريخ عموماً، مفاصله الأساسية هي مواقيت الحروب والانتصارات والهزائم؛ حضارات كبرى تأسست على الحرب؛ لولا الحرب لما كانت الامبريالية ولا كانت الرأسمالية؛ صفقات السلاح بين الدول ما زالت معظمها سرية، والسرية نقيض الشفافية والديمقراطية والحرية؛ الكتب المقدسة عند كل الشعوب معنية بالحرب أكثر من أي شيء آخر؛ الديكتاتوريات معظمها أسّسها رجال الحرب أو مدنيون أصحاب مزاج حربي؛ تهزمنا إسرائيل لأنها تجيد الحرب أكثر منا (ولا شك أن للدعم الامبريالي دور كبير في ذلك)؛ أبيدت شعوب بالحرب، ونبغت شعوب بالحرب، وما زالت حروب الإبادة تُشن إما لإبادة شعوب أو إبادة حضارات أو لغات.

يؤرخون للرأسمالية وكأنها نشأت من مجرد تحوّل أنماط الإنتاج لا من الحرب أيضاً؛ ولا بدّ من التساؤل حول دور الحرب في تحوّل أنماط الإنتاج والاقتصاد عموماً؛ بلا الأدب والشعر والفلسفة وكل أشكال الوعي البشري. قال أحد الشعراء:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما    أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

خياراتنا ليست كثيرة بين الموت وبين الكدح بأجور قليلة. الذين يراكمون الثروات ليسوا الجنود (البروليتاريا)، بل القادة. قليلاً ما نرى كتابات حول الحياة اليومية للعسكر، ولا حتى الحياة اليومية للمجتمع بشكل عام.

المهم أن منطقتنا العربية هي أكثر مناطق العالم استهلاكاً لسلعة الحرب، مع إهمال شؤون الناس كنقص الغذاء والماء والتصحّر. ما زلنا نستهلك ما يزودنا به الغرب ولا نحتج إلا ضد ما يزودنا به من ثقافة. الايديولوجيا عندنا أهم من الوجود. الوجود البشري محتقر سواء لدى حكامنا أو حكام الدول العظمى. فهل سيكون نهوضنا بالحرب أم بوسائل أكثر إنسانية؟

*كاتب ووزير سابق 

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram