إن كان اللبنانيون صدموا بما خلص إليه تقرير ديوان المحاسبة عن هدر بعشرات الملايين من الدولارات في قطاع الاتصالات مثبتة بأدلة وبراهين، فإنهم سيصدمون أكثر بالأحكام القضائية التي يمكن أن تصدر عن ديوان المحاسبة بصفته "المحكمة المالية" لجهة فرض غرامات والتي ستستند الى المادتين 60 و61 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة. فالغرامات التي تنص عليهما هاتان المادتان هي غرامات لا تتناسب مع #الهدر الحاصل، بدليل أن الحد الأقصى الذي تسمح المادة 61 به هو مجموع راتب الوزير أو الموظف السنوي أو مخصّصاته السنوية وما يماثلها بتاريخ ارتكاب المخالفة".
نحن أمام فضيحة فادحة وفاضحة يمكن أن تصل الى الجريمة الموصوفة"... هذا الكلام لرئيس لجنة الإعلام والاتصالات النيابية النائب إبراهيم الموسوي تعليقاً على ما خلص إليه التقرير الأخير لديوان المحاسبة الذي صدر قبل أسبوعين عن قطاع الاتصالات وتطرق الى مسألتين أساسيتين وهما استئجار ثم لاحقاً شراء مبنى "تاتش" في الباشورة/وسط بيروت، واستئجار مبنى "قصابيان" في الشياح.
كلام الموسوي الذي جاء عقب اجتماع لجنة في المجلس النيابي خصص للبحث في نتائج التقرير ختمه بالقول "إن ما قام به ديوان المحاسبة لم يسبق أن قامت به أي جهة قضائية أو إدارية في الدولة اللبنانية، لدينا مضبطة اتهامية متكاملة، هناك تحقيق مهني، ومن الآن حتى أسبوعين أو ثلاثة يمكن أن تصدر الأحكام بعد أن يدلي الوزراء بدفاعهم". ولكن كيف سيحاسب المرتكبون؟ وما الغرامات التي يمكن أن يدفعها هؤلاء؟
إذن، نحن أمام مخالفات جسيمة رتبت هدراً بالمال العام يفوق 10 ملايين دولار في ملف مبنى قصابيان مع احتمال وصول المبلغ المهدور الى ما يفوق 31 مليون دولار إذا ربحت الشركة مالكة مبنى قصابيان الدعاوى المرفوعة على وزارة الاتصالات، كل ذلك دون أيّ منفعة عامة. أمّا في ملف مبنى الباشورة فقُدّرت المبالغ المهدورة بقيمة 50 مليون دولار، في المقابل أقصى ما يمكن أن يفرضه الديوان من غرامات هو مجموع رواتب الوزير لمدة سنة التي كان يتقاضاها في فترة حصول المخالفة، أي قد لا تتجاوز الغرامات ألف دولار على سعر الصرف الحالي. وتالياً، يضيف المصدر، إن فرض الغرامات فقط قد لا يشكل بحدّ ذاته عقوبة توازي الجرم المرتكب وطبعاً لا يشكل رادعاً لارتكاب مثل هذا الجرم، بل على العكس، فرض غرامات ضئيلة جداً من جراء ارتكاب جرائم مالية بعشرات ملايين الدولارات قد يكون حافزاً لارتكاب المزيد من هذه المخالفات الكبيرة.
الباحثة الدكتورة جوديت التيني أوضحت لـ"النهار" أن "الغرامة ضئيلة، وتالياً يجب أن يصار الى تعديل القانون وتحديداً المادتين 60 و61 المادتين من قانون تنظيم ديوان المحاسبة. فالغرامة برأيها لا تتناسب مع الهدر الحاصل على اعتبار أن الحدّ الأقصى الذي تسمح المادة 61 به هو مجموع راتب الموظف السنوي أو مخصّصاته السنوية وما يماثلها بتاريخ ارتكاب المخالفة".
أمام هذا الواقع، يشدد المصدر على أهمية أن "تصدر الغرفة القضائية المختصة في ديوان المحاسبة سندات تحصيل بحق كل من أسهم بارتكاب هذه الجرائم المالية من الوزراء والمستشارين في الوزارة والمديرين في شركة تاتش، علماً بأن قيمة سندات التحصيل هي بقدر القيمة الفعلية التي تحمّلتها الخزينة العامة وتقدّر لهذه الحالة بعشرات ملايين الدولارات وهي تطال الوزراء والموظفين بمالهم الخاص".
وفي السياق اعتبرت التيني أنه يعود للغرفة القضائية سلطة في التقدير والتقرير، مثلاً في قرار لها عائد لسنة 2021 قررت الغرفة التي يرأسها القاضي عبد الرضى ناصر والقاضيان محمد الحاج وجوزف الكسرواني عضوين، إصدار سند تحصيل بحق أحد الوزراء بمبلغ يعادل القيمة الفعلية للأشغال المنفذة من دون سند قانوني من أصل قيمة الأشغال الأساسية (البالغة ملايين الدولارات). وأكدت أن لا سقف لسندات التحصيل وهي تكون بقدر ما تحمّلته الخزينة العامة على أن تكون من أموال الوزير بشكل كامل.
تجدر الإشارة الى أن شمول رقابة الديوان لا يقتصر على الموظف الفعلي في الإدارة العامة، بل كافة الأشخاص الذين يقومون بإدارة أو استعمال الأموال العمومية أو التدخل في إدارتها حتى لو كانوا من غير الموظفين، ما يعني شمول الوزير والمستشارين في الوزارة ومديري شركة تاتش وأعضاء مجلس إدارتها. وبما أن الفقرة الثانية من المادة 59 من قانون تنظيم الديوان قد نصّت على أنه "يُعتبر بحكم الموظف في تطبيق أحكام هذه الرقابة كل شخص من غير الموظّفين عهد إليه تولي المهام المنصوص عليها في الفقرة الأولى من هذه المادة سواء أكان ذلك بالتعيين أم بالانتخاب أم بالتعاقد بما في ذلك أعضاء الهيئات التقريريّة بمناسبة توليهم المهام المذكورة وكل شخص من غير الموظفين تولى هذه المهام أو تدخل أو أسهم فيها دون صفة قانونية. ما يظهر نيّة المشترع الواضحة بتوسيع رقابة الديوان إلى حدها الأقصى، دون أي استثناء، وبشمول هذه الرقابة كافة الحالات بما فيها حالات الأشخاص من غير الموظفين الذين لا تكون لهم صفة قانونية".
ويضيف المصدر أن الدفوع التي سوف يتقدّم بها الوزراء في الأيام القليلة المقبلة هي بغاية الأهمية، لأن البيانات الصحافية التي صدرت عن بعض الوزراء الذين طالهم تقرير ديوان المحاسبة كانت تفتقر الى المصداقية لكونها تحاشت النقاط الأساسية في تقرير الديوان، وكأن هذه الردود جاءت للتعمية على الوقائع والمخالفات الموثقة في التقرير.
التيني أشارت الى أنه "يمكن الطعن بالقرار القضائي الصادر عن الديوان إما عن طريق إعادة النظر في القرار أمام الديوان خلال مهلة شهرين من تاريخ تبيان أو ظهور السبب المبرّر لإعادة النظر أو عن طريق النقض أمام مجلس شورى الدولة خلال مهلة شهرين من تاريخ تبلّغ القرار المطعون فيه". وإذ لفتت الى أن قرارات الديوان تدخل في إطار رقابته القضائية على الموظفين، وأنه يمكن أن تصدر قراراته بحق الوزراء الحاليين والسابقين على السواء، لفتت الى أن قراراته تبلغ الى مجلس النواب فيعود للأخير مساءلة الوزراء وفقاً للدستور وتحديداً قواعد المسؤولية السياسية للحكومة وللوزراء أمام البرلمان (يطرح الثقة بالوزير... طبعاً هذا غير جائز اليوم لأننا في إطار حكومة مستقيلة)".
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :