تعيدنا الدعوة التي وجهها السفير السعودي وليد بخاري لإحياء ذكرى اتفاق الطائف بعد مرور 33 سنة على اقراره بضع سنوات الى الوراء لنتذكر بداية انطلاق حزب الله في لبنان، والذي دعا في وثيقة انطلاقته الى محاربة اسرائيل وقوى الاستكبار الغربية والى قيام دولة اسلامية في لبنان. لم يُثِرْ اعلان الحزب في البداية هواجس وحفيظة اللبنانيين على اختلاف طوائفهم او توجهاتهم السياسية وظنوا ان الحزب سيشكل ظاهرة عابرة، ستنتهي مع انسحاب القوات الاسرائيلية من لبنان. لكن ما زال حزب الله بعد 40 سنة على انطلاقته اقوى تنظيم مسلح على مستوى لبنان والمنطقة العربية، ويتفوق بقدراته العسكرية على الجيش اللبناني، فيتحوّل بالتالي انطلاقاً من فائض قدراته على الارض، الى لاعب سياسي رئيسي، له الكلمة الفصل في مختلف الاستحقاقات الوطنية، بالاضافة الى قدراته على التدخل عسكرياً في الحرب السورية، وفي مسارح عمليات عدة لصالح النظام الايراني.
شكّل حزب الله الاستثمار الأنجح للجمهورية الاسلامية منذ عام 1979، ويعتبر اليوم بعد اربعة عقود على انشائه اقوى ذراع عسكري يملكها الحرس الثوري خارج ايران، حيث بات يشكل قوة استراتيجية، لها قدراتها للتدخل لمؤازرة السياسة الايرانية والدفاع عن حلفاء ايران في المنطقة وخصوصاً في سوريا والعراق واليمن والبحرين، وفي غزة.
منذ نجاح الثورة الاسلامية اعلن الامام روح الله الخميني عن نيّة ايران في تصدير الثورة، وهذا ما اثار حفيظة الدول الخليجية، واعتبرت ان طهران ستعمل على دعم الجماعات الشيعية في هذه الدول، وذلك كمقدمة لتهديد امنها، ومحاولة قلب الانظمة فيها. وكانت المحاولة الاولى للدول الخليجية للدفاع عن نفسها من خلال دعم صدام حسين في الحرب التي شنها ضد ايران ما بين 1980 و1988، هذا بالاضافة الى تقديم الدعم لبعض الانظمة العربية، وخصوصاً لبنان،ولكن دون تحقيق النجاح المطلوب في احتواء قدرات حزب الله او الحد من النفوذ الايراني المتنامي.
كانت المملكة العربية السعودية قد تصدَّرت مواجهة الطموحات الايرانية للسيطرة على بعض الدول الخليجية والعربية، وخصوصاً في البحرين واليمن ولبنان. وكان الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي وصف «النظام الايراني برأس الأفعى» قد بذل جهوده القصوى لاحتواء النفوذ الايراني وأدواته بكل الوسائل الممكنة، وقضت خطته في لبنان بتقوية الجيش اللبناني بالاسلحة اللازمة له من اجل تحقيق التوازن اللازم مع قدرات حزب الله، وذلك من خلال تقديم مساعدات عسكرية وامنية تصل الى اربعة مليارات دولار.
ترغب الدول الخليجية، دون شك، في رؤية حدوث تغيير في النظام الايراني، كمقدمة لحدوث تبدّل في الجيوبوليتيك الاقليمي، وهذا ما تعكسه التغطية الاعلامية العربية للاحداث التي تشهدها ايران في الفترة الراهنة، حيث تشمل هذه التغطية متابعة الاحداث والتظاهرات التي تجري في المدن الصغيرة في المناطق الريفية. في المقابل تثير المُظاهرات والاحداث الجارية داخل ايران هواجس ومخاوف حلفائها، وخصوصاً حزب الله، والذي وصف امينه العام السيد حسن نصر الله ما يجري في ايران بالمؤامرة الخارجية. وتحدثت بعض وسائل الاعلام عن ايفاد بعض الميليشيات العربية وفي رأسها حزب الله وبعض فصائل الحشد الشعبي العراقي مجموعات مسلحة لمؤازرة الحرس الثوري وقوات الباسيج على قمع المظاهرات ومنع تحويلها الى عصيان دائم يؤدي الى اضعاف النظام والتهيئة لسقوطه.
في ظل الاحداث التي تشهدها ايران هذه الايام فقد بات من المنطقي والمشروع التساؤل عمَّا يمكن ان تؤدي اليه التطورات الراهنة في المستقبل المنظور، وعن مدى تساقطاتها على الدول العربية ومجتمعاتها. سبق ان شهدت ايران تظاهرات واحداثا معادية للنظام، ولكن لا يمكن مقارنتها بسرعة وقوة الحركة الاحتجاجية الراهنة، حيث بلغت في وسعها وقوتها كل الحركات السابقة، حيث لم تعد تقتصر مطالب المتظاهرين على اصلاحات مجددة داخل الدولة، بل تعدتها الى مطلب قلب النظام، وتعممت لتشمل مختلف المناطق والشرائح الاجتماعية، كما امتدت على فترة زمنية اطول بكثير من سابقاتها.
اللافت انه بالرغم من مقتل المئات من المتظاهرين واعتقالها ما يقارب 12000 من المتظاهرين فقد فشلت قوات النظام من كبح او وقف التظاهرات. وبلغت خطورة الاحداث حداً دفع أحد المتظاهرين من جامعة طهران للقول «لم نعد حركة احتجاجية بل تحوّلنا الى ثورة ستولد من رحمها أمة جديدة». ولا بد ايضاً من الاشارة الى زخم المشاركة النسائية في هذه «الثورة» وذلك بالرغم من كل العوائق الدينية والقانونية التي تعرقل مشاركة المرأة من قبل القيادات الدينية والامنية. فالمرأة الايرانية، ولأول مرة في الشرق الاوسط تقود المظاهرات متحدية جميع العوائق والقوانين واساليب القمع، «فالثورة» مستمرة والنساء يتجولن في الشارع دون حجاب، منادين بسقوط النظام والموت للمرشد.
ما زال من المبكّر التنبّؤ بما ستؤول اليه الامور، وبمستقبل حكم رجال الدين، مدعومين من الحرس الثوري لايران، وتتساءل بعض الاوساط الخليجية والعربية عن امكانية قيام الحرس الثوري بانقلاب عسكري. مع اقتراب ان يستمر الحكم العسكري في دعمه للأذرعة الايرانية العسكرية في الدول العربية، وعلى رأسها حزب الله والحوثيون، وفصائل من الحشد الشعبي والميليشيات الايرانية المختلفة في سوريا، وذلك لاسباب ايديولوجية او استراتيجية.
والسيناريو الثاني يتركز على سقوط النظام وإقامة حكم ديمقراطي يضمن الحريات العامة، مع الامل ان يحد ذلك من طموحات ايران للهيمنة على الدول العربية، وبالتالي وقف تبذير مليارات الدولارات على مختلف الميليشيات. ويستند داعمو هذا السيناريو على الشعارات التي يرفعها المتظاهرون في ايران والتي تقول «لا لغزة» و«لا للبنان» بعد اليوم.
في رأينا انه في حال سقوط حكم «الملالي» فإن الاذرعة العسكرية التي شكلتها ايران في عدد من الدول العربية باتت قادرة على الاستمرار في تأمين التمويل الذاتي لفترة طويلة من الزمن. من هنا فإنه يمكن لحزب الله الحفاظ على قدراته العسكرية وهيمنته السياسية على الدولة اللبنانية من خلال المساعدات المالية التي يتلقاها من اغنياء الشيعة ومن استثماراته الخاصة داخل لبنان او في افريقيا او اميركا اللاتينية.
يمكن ايضاً للحوثيين الاستمرار في حربهم الداخلية انطلاقاً مما تؤمنه الموانئ والهيمنة على جزء كبير من الاقتصاد اليمني ومؤسسات الدولة. اما الحشد الشعبي فيمكنه الاستغناء عن مساعدات ايران، واللجوء الى اقتطاع حصة لصالحه من الثروة النفطية العراقية. اما في سوريا فإن بإمكان نظام بشار الاسد لتأمين استمراره الاستغناء عن الميليشيات الايرانية والقوات الروسية من خلال ايجاد بديل لدى بعض الانظمة الخليجية التي يعمل جاهدا للتقارب منها.
يبقى من الاسئلة المهمة مصير علاقات الدول الخليجية مع النظام الايراني الجديد؟ اذا حدث انقلاب عسكري فإن ذلك لن يحمل اي رجاء بحدوث تحسن بين الطرفين العربي والايراني. اما في حال تبدل النظام وحلول حكام يؤمنون بالحريات مكان الحكم الراهن، فإنه يمكن للعلاقات العربية - الايرانية ان تتغيّر في حالة براغماتية، تشبه ما كان قائماً ايام حكم الشاه، تستند على المصالح المشتركة المرتبطة بانتاج النفط واسعاره، ويبقى السيناريو الثالث والاخير والذي يقوم على عدم استقرار الوضع السياسي والامني، والذي سيؤدي الى تدهور اقتصادي ومعيشي، سيفتح هذا السيناريو الباب على مصراعيه لهجرة مئات آلاف الايرانيين وبما يؤثر سلباً على الاوضاع داخل الدول الخليجية ولبنان وسوريا والعراق، من خلال تدفق موجات متتالية من اللاجئين.
في ظل جميع السيناريوهات المطروحة يبدو بأن انعكاساتها على خيارات حزب الله لن تكون لصالح الاستقرار في لبنان وخصوصاً لجهة تسهيل انتخاب رئيس جديد.
نسخ الرابط :