لم تشهد بيروت منذ فترة غير قصيرة لقاءً وطنياً جامعاً، مثل الإحتفالية الكبيرة التي دعا إليها السفير السعودي وليد بخاري لمناسبة مرور ٣٣ عاماً على إعلان إتفاق الطائف، الذي أنهى عذابات الحرب اللبنانية بعد ١٥ سنة من الخراب والدمار.
قاعات قصر الأونيسكو وردهاته ضاقت بحجم الحضور والمشاركين، ليس كمّاً وعدداً وحسب، بل بنوعية النخب التي حرصت على الحضور من مختلف المناطق، القريبة منها والبعيدة، إضافة إلى شمولية التمثيل الطائفي والحزبي والسياسي، وحتى الروحي، حيث حضرت مرجعيات روحية كبيرة شخصياً، وتمثلت أخرى بأقرب المساعدين وأرفعهم رتبة.
الواقع أن السفير السعودي نجح، عبر الديبلوماسية الناعمة التي يُتقن ممارستها، في تنظيم هذا اللقاء الوطني الشامل، حيث فشلت جهود ومساعي كبار المسؤولين اللبنانيين في جمع عدد من القيادات السياسية حول طاولة مستديرة، للبحث في سبل الخروج من دوامة الأزمات التي يتخبط فيها البلد.
ورغم حصر الكلمات والمناقشات في ذكرى مرور ٣٣ عاماً على إتفاق الطائف، إلا أن أجواء هذا اللقاء النادر، حملت إيحاءات ورسائل، داخلية وخارجية مهمة، لا بد من التوقف عند أبرزها :
١ــ لقد تحوّل اللقاء إلى ما يشبه استفتاءً وطنياً وعفوياً، يؤكد تمسك اللبنانيين، على إختلاف إتجاهاتهم السياسية، وتنوعهم الحزبي بإتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب البغيضة، وأصبح هو الميثاق الوطني الذي يُنظم العلاقات بين السلطات، ويحدد قواعد العيش الواحد بين اللبنانيين، ومن مبادئه العامة إنبثق دستور الجمهورية الإستقلالية الثانية.
٢ــ أثبتت مبادرة السفير بخاري أن المملكة لم تُغادر لبنان، بل هي في صميم الوضع اللبناني، من خلال متابعات السفير اليومية في بيروت، أو عبر اللقاءات الدورية التي تُجريها الإدارة السعودية مع الدول المعنية بالوضع اللبناني ، وفي مقدمتها فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، حيث ما زالت بنود البيان الثلاثي الصادر عن وزراء خارجية الدول الثلاث، تشكل خريطة طريق لإنهاء الشغور الرئاسي في لبنان.
٣ــ حَسَم كلام السفير بخاري عن تعهد فرنسي وتفاهم مع باريس على عدم المس بإتفاق الطائف، كل اللغط الدائر حول التحضير لمؤتمر تأسيسي يخرج بميثاق جديد بين اللبنانيين بديل عن إتفاق الطائف. على إعتبار أن الطائف لم يُنفذ بكامل بنوده بعد، فضلاً عن أن الإنقسامات الراهنة بين اللبنانيين لا تُشجع على خوض مثل هذه المغامرات في الوقت الحاضر.
٤ــ الحضور السياسي المكثف، والذي يُجسّد خريطة القوى السياسية للبنان حالياً، يُثبت مرة أخرى، أن الخطاب الشعبوي شيء، وأن الواقع السياسي والوطني شيء آخر، ولا علاقة له بالمزايدات الإنتخابية، أو المواقف الإبتزازية. وكان لافتاً حضور شخصيات من الصف الأول من حركة أمل، والتيار الوطني الحر، وتيار المردة، حيث كانت المشاركة الشخصية للمرشح لرئاسة الجمهورية سليمان فرنجية محور تعليقات وتكهنات بما له علاقة بالإنتخابات الرئاسية، بغض النظر إذا كان هذا الحضور منسقاً مع الحلفاء، وخاصة الحزب، أم لا.
٥ــ سلّطت كلمة الزعيم وليد جنبلاط الأضواء على بعض البنود التي لم تُنفذ حتى الآن من إتفاق الطائف، وخاصة مسألة إنشاء مجلس الشيوخ، الأمر الذي أعاد من جديد إعطاء الأولوية للبنود التي لم تُنفذ بعد من الإتفاق، على كل ما يطرحه البعض من السعي للتوافق على صيغة جديدة للميثاق الوطني غير إتفاق الطائف.
٦ــ جدّد المطران بولس مطر، ممثلا البطريرك بشارة الراعي، تمسك الكنيسة بثوابت إتفاق الطائف، وما تضمنه من بنود لتنظيم العلاقة بين اللبنانيين، وحل خلافاتهم المزمنة، «والذي وضع حداً للحرب اللبنانية»، و«حسم الهوية العربية ونهائية الكيان اللبناني»، والتأكيد على أن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه. وقطع الطريق على بعض المغامرين في الصف المسيحي بكلمات حاسمة: أيها اللبنانيون ، أعطاكم مؤتمر الطائف أن تبنوا وطنكم من جديد فلا تضيّعوا هذه الفرصة.
قبل الدعوة الدبلوماسية الذكية إلى منتدى الطائف يوم السبت الماضي، روّج البعض بأن الحضور السعودي في لبنان إلى أفول، وأن فعالية إتفاق الطائف إلى زوال.
وتعمّد هؤلاء تجاهل الحقيقة التاريخية التي تُكرّس العلاقات الأخوية بين البلدين قبل الطائف وبعده، وأن ما يجمع الشعبين الشقيقين لا يمكن أن تفرقه حملة من هنا، أو إفتراء من هناك، وأن المملكة لطالما وقفت إلى جانب لبنان، دولة وشعباً، في الأزمات والمآسي والملمَّات، دون أي تدخل في شؤونه الداخلية، أو فرض أي شروط سياسية.
أما الحرص السعودي الحالي على إتفاق الطائف، فليس لأنه إنجاز سعودي وعربي ودولي، تم برعاية سعودية وعلى الأرض السعودية وحسب، بقدر ما يعود إلى الإهتمام السعودي الدائم بأمن وإستقرار الشقيق المشاغب، والذي يجتاز مرحلة عاصفة تهدد كيانه وسيادته وإستقراره، وتشكل تداعياتها خطراً على الأمن القومي العربي برمته.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :