ما يؤسف له حقاً ان نسمع بين الفينة والفينة اصواتاً تطالب علناً وسراً، مباشرة ومداورةً بإعادة النظر بالصيغة السياسية والإدارية التي رسمتها «وثيقة الوفاق الوطني اللبناني»، او ما بات يعرف بإسم «اتفاق الطائف» الذي ارتضاه اللبنانيون في مؤتمرهم في مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية تحت مظلة عربية واسعة وموافقة دولية لافتة. اقر لبنان هذه المعاهدة الدولية بتاريخ 22/10/1989 وصارت جزءاً من منظومته التشريعية سيما وان بعضا من بنودها ادرج في متن الدستور اللبناني الحالي.
ان اول هدف لمؤتمر الطائف كان انهاء الحرب اللبنانية الداخلية التي كان قد مضى على اندلاعها عدة سنوات وخلفت الكثير من الضحايا فضلا عن الإضرار المعنوية والمادية الفادحة.
اما الهدف الثاني فكان البحث في تحقيق رزمة من الإصلاحات السياسية والإدارية والتعليمية والقضائية بهدف اخراج لبنان واللبنانيين من القيد الطائفي الذي كان سمة المجتمع السياسي اللبناني والإنتقال بلبنان وعلى مراحل الى دولة حقيقية وعصرية من دون طائفية.
لقد قرر المؤتمرون في الطائف ان يتولى مجلس النواب المنتخب على اساس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين ان يتخذ الإجراءات اللازمة لكسر القيد الطائفي توصلاً الى انشاء «هيئة وطنية لإلغاء الطائفية» برئاسة رئيس الجمهورية وتضم رئيسي مجلس النواب ومجلس الوزراء وشخصيات فكرية سياسية واجتماعية تكون مهمتها دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديم هذه الدراسة الى مجلسي النواب والوزراء ومن ثم متابعة تنفيذ الخطة المرحلية.
لكن تعنّت الطبقة السياسية التي توالت على حكم البلاد ورفضها الدائم اديا الى عدم انشاء هذه الهيئة التي ما تزال حبراً على ورق.
وجاء في اتفاق الطائف ايضا ودائما في اطار الإصلاح السياسي البعيد عن الطائفية ان على مجلس النواب المنتخب على اساس وطني لا طائفي بنتيجة قانون انتخاب على اساس المحافظة كدائرة انتخابية ان يستحدث مجلساً للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتكون صلاحياته محصورة في القضايا المصيرية فقط.
لكن هذا المجلس ما زال في طي الغيب بسبب لا مبالاة الطبقة الحاكمة.
عندما قرر اتفاق الطائف اجراء انتخابات نيابية على اساس «المحافظة» وخارج القيد الطائفي كان يريد ان تكون الأكثرية النيابية المنبثقة عن هذه الإنتخابات اكثرية سياسية وطنية وغير طائفية او مذهبية كي لا ينعكس ذلك سلبا على عملية اختيار الشخصية التي ستتولى رئاسة الحكومة، وعلى الشخصية التي ستنتخب رئيساً للجمهورية.
لكن قوانين الإنتخابات التي وضعتها الطبقة السياسية الحاكمة، لا سيما القانون الأخير جاءت مناقضة لروح اتفاق الطائف لأنها لم تعتمد المحافظة ولأنها لعبت بالدوائر الإنتخابية بحيث تكونت اكثرية نيابية مذهبية باتت تتحكم في مسار العملية السياسية.
اما على المستوى الإداري فقد قرر اتفاق الطائف اعتماد «لا مركزية ادارية موسعة» مع الحفاظ على مركزية القرار وذلك لتحقيق الإنماء المتوازن وتسهيل العمل الإداري.
لكن هذا البند الإصلاحي على المستوى الإداري لم ينفذ حتى الآن بحيث بقيت الإدارة مركزية بامتياز.
لفت اتفاق الطائف الى امرين هامين يصبان في خانة الخروج من القيد الطائفي: الأول التزام الطبقة السياسية الحاكمة في المرحلة الإنتقالية الغاء التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والإختصاص في كل الوظائف العامة باستثناء الفئة الأولى التي تبقى مناصفة بين المسلمين والمسيحيين ولكن من دون تخصيص اية وظيفة واعتماد المداورة في الوظائف. والأمر الثاني هو الغاء ذكر المذهب او الطائفة على بطاقة الهوية. وهذا الأمر تحقق جزئياً.
على الصعيد الدستوري والقضائي فقد انشىء المجلس الدستوري فعلا لمراقبة دستورية القوانين ولكن من دون تفسيرها وفقا لما ورد في قانون انشاء المجلس الدستوري الذي حصر في مجلس النواب وحده حق تفسير الدستور. لكن اتفاق الطائف نص على ان تفسير الدستور هو من صلاحيات المجلس الدستوري. وهذا النص في محله القانوني السليم، اذ ليس طبيعيا ان تكون الجهة التي تطبق الدستور هي نفس الجهة التي تفسره.
اما الإصلاحات على المستوى السياسي فكان ابرزها ما قرره اتفاق الطائف لجهة الحد من صلاحيات رئيس الجمهورية كما كانت في السابق وتوزيعها على مجلس الوزراء مجتمعا بحيث صار هذا المجلس ورئيسه يشاركان رئيس الجمهورية في صلاحياته.
ولجهة اختيار رئيس الحكومة فقد اصبح يتم وفقا لإتفاق الطائف بعد استشارات نيابية ملزمة ومن ينال اكثرية الأصوات يسميه رئيس الجمهورية رئيساً للحكومة. لكن اتفاق الطائف ومن ثم دستور الطائف لم يحددا مهلة للإستشارات النيابية الملزمة كما لم يحددا مهلة لتأليف الحكومة بحيث انه اذا وقع خلاف بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة يتعطل تأليف الحكومة وتتعطل معه آلة الحكم. وقد حصل مثل هذا الأمر اكثر من مرة و دامت عملية التأليف اشهراً.
لقد اضاف اتفاق الطائف الى اسباب استقالة الحكومة سبباً جديداً هو استقالة ثلث اعضائها. لقد اريد لهذا السبب في ضمير من وضع الإتفاق ان يكون ثلثا ضامنا لعمل الحكومة لأنه يريح رئيس الجمهورية. لكن هذا السبب صار مع الوقت ثلثا معطلا لتأليف الحكومة ولديمومتها. ذلك ان تمسك رئيس الجمهورية الدائم بهذا الثلث كان يؤدي الى عرقلة تأليف الحكومات، واستعماله له، وكثيرا ما كان يستعمله ما كان يؤدي الى تعطيل عجلة الحكم.
قبل اتفاق الطائف كان رئيس الجمهورية يحكم منفردا تقريبا ومع اتفاق الطائف صار الحكم شراكة بينه وبين رئيس الحكومة ومجلس الوزراء. بحيث انه اذا اراد مثلا اقالة وزير فالأمر يحتاج الى مرسوم يوقعه معه رئيس الحكومة وبعد موافقة ثلثي الوزراء. ولعل ابرز مثال على تنازع الصلاحيات بين رئيسي الجمهورية والحكومة يظهر من خلال الخلاف على من يشكل الحكومة.
مما لا شك فيه انه اذا كان الدستور اللبناني الذي انطوى على بعض بنود اتفاق الطائف وكان من الضروري تعديله بعض المرات فمن الواجب الإنتباه ان لا يتعارض التعديل مع روح ونص اتفاق الطائف وعلى ان يتم ذلك وفقا للأصول الدستورية المقررة سيما وأن اتفاق الطائف هو معاهدة دولية التزم بها لبنان رسمياً ودخلت في تشريعنا الداخلي وتتقدم على غيرها من القوانين ولأنها تهدف الى نقل لبنان من حالة الإصطفاف الطائفي البغيض الى مصاف الدولة العصرية المنشودة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :