يقول مايكل ويبر رئيس شركة إنجي الفرنسية: "الهيدروجين الطبيعي أو الأبيض سيُحدث أكبر انقلاب في نظام الطاقة العالمي". فهل يكون هذا النوع من الهيدروجين بعد الأزرق والفيروزي والأخضر، هو "السلاح السرّي" في حرب أميركا ضدّ النفط وتحالف "أوبك بلاس"، وأكثر أنواع الوقود قابليّة ليحلّ محلّ الطاقة الأحفورية في حال ثبتت تأكيدات الخبراء عن وجود مخزونات ضخمة في القشرة الأرضية، وأنّ هذه المخزونات قابلة للتجدّد؟
.. ولأن نظرية المؤامرة غير مستحبّة، فالأفضل هو نظرية التخطيط الطويل المدى، لأنّ ربط التطوّرات بعضها ببعض ومتابعة مساراتها يسمحان باستقراء وفهم هذه الخطط. وأهمّ ما يمكن فهمه هو أنّ الولايات المتحدة ومجموعة الدول الصناعية السبع بدأت منذ نحو عقدين تنفيذ خطة محكمة للانتقال من عصر الطاقة الأحفورية إلى عصر الطاقة المتجدّدة أو النظيفة لعدّة أسباب، أهمّها:
ـ أنه لم يعد هناك ما يكفي من النفط في أميركا وبريطانيا والنرويج وبقيّة الدول الصناعية.
ـ لأنّ استمرار التحكّم بالمخزونات الضخمة الموجودة في روسيا والسعودية والعراق وقطر وإيران وفنزويلا لم يعد ممكناً أو باتت كلفته السياسية مرتفعة ويتطلّب تدخّلاً عسكريا دائماً وإدارة مرهقة وغير مضمونة النتائج للصراعات.
ـ لأنّ استمرار عصر الطاقة الأحفورية بجغرافيّته السياسية وارتباطه بالتصنيع وسلاسل الإمداد والعولمة بات يصبّ في مصلحة الصين ومصالح الدول المنتجة وليس في مصلحة أميركا.
"لامركزيّة موسّعة" في الطاقة
.. ولأنّ عصر الطاقة النظيفة يحمل نمطاً جديداً يمكن وصفه بـ"اللامركزية الموسّعة"، أي الإنتاج للاستهلاك المحلّي أو الإقليمي بأحسن الاحتمالات، فلا بدّ أن يحمل في طيّاته نمطاً جديداً من الجغرافيا السياسية والتحالفات الدولية. أليس ذلك ما يفسّر تخلّي أميركا عن التزاماتها تجاه السعودية وبقيّة أصدقائها من الدول النفطية، وخروجها "المتدحرج" من النزاعات الإقليمية واعتماد أسلوب "الإدارة عن بعد". وهو تفسير قد يكون أقرب إلى المنطق من التفسير القائل إنّ الخروج هو للتركيز على الصراع مع الصين. وكأنّ هذا الصراع يقتصر على مضيق تايوان ولا يطال مضيق هرمز وباب المندب بسبب النفط الذي ما يزال أولوية بالنسبة إلى أميركا.
أميركا: أطلقوا النار على أقدامكم
.. ولأنّ الانتقال إلى عصر الطاقة النظيفة يتطلّب مرحلة انتقالية طويلة نسبياً، يبقى خلالها النفط والغاز المكوّن الرئيسي في مزيج الطاقة العالمي، فقد ارتأت أميركا، أو الأصحّ قرّرت، أنّ على الدول النفطية القبول باعتماد "معادلة جهنّمية" تقوم على ضخّ النفط والغاز بأعلى المعدّلات والبيع بالتالي بأقلّ الأسعار خلال هذه المرحلة. وهي المعادلة التي تضمن الحفاظ على النمو الاقتصادي والرخاء في الدول الصناعية الكبرى، وعلى بقاء "شاشات" وول ستريت و"ملاهي" الشانزليزيه متلألئة بالأنوار، والأهمّ أنها تضمن توفير مئات مليارات الدولارات لإنفاقها على مشاريع تطوير الطاقات النظيفة لتحلّ محلّ الطاقة الأحفورية. وتكفل هذه المعادلة، بالمقابل، "إفقار" الدول النفطية الذي يؤدّي بدوره إلى انضوائها قسراً في الفلك الأميركي، كما يظنّ راسمو الخطط أو حابكو المؤامرات. وهي معادلة أشبه ما تكون بالطلب إلى تحالف "أوبك بلاس" التضحية بمصالح دوله وشعوبه على مذبح رخاء الشعب الأميركي وفوز جو بايدن بالانتخابات.
"أوبك بلاس": استقرار الأسواق وصون المصالح
في مقابل عنجهية تلك "المعادلة الجهنّمية"، كانت دول "أوبك بلاس" تعتمد معادلة واقعية تقوم على موازنة العرض والطلب بما يكفل الحفاظ على استقرار أسواق الطاقة، ويكفل في الوقت ذاته مواصلة تنفيذ خطط التنمية فيها وتوفير مصادر دخل بديلة للنفط والغاز. وذلك ما يفسّر غضب الرئيس الأميركي جو بايدن من قرار تحالف "أوبك بلاس" خفض الإنتاج بمقدار 2 مليون برميل يومياً، علماً أنّ هذا الخفض نظريّ، لأنّ الإنتاج الفعليّ لدول التحالف يقلّ عن السقف المحدّد أو المعلَن. وذلك أمر يعرفه طبعاً الرئيس بايدن ويعرف أنّ الخفض ضرورة لموازنة العرض والطلب. ولذلك كان أقصى ما يريده هو تأجيل إعلان الخفض إلى ما بعد الانتخابات النصفية تجنّباً لمزيد من تدهور شعبيّته.
الحرب على النفط
بعيداً عن حسابات الانتخابات و"هرطقة المعادلات"، يلاحَظ أنّ أميركا ودول مجموعة السبع صعّدت خلال السنوات الماضية الحرب على النفط والغاز من خلال اعتماد تشريعات وقرارات واتفاقيات دولية لتقييد أنشطة الوقود الأحفوري. ووصل الأمر إلى حدّ المنع الكامل للاستثمار في مشاريع جديدة، وهو ما أدّى إلى تراجع كبير للاستثمارات. والغريب أنّ هذه الاستثمارات توجّهت نحو الطاقة المتجدّدة في مختلف مجالاتها كالطاقة الشمسية والحيوية والجوفية والرياح. وتبقى النقلة الكبيرة في تطوير وقود الهيدروجين بكلّ ألوانه من الرمادي والأزرق والفيروزي والأحمر المستخلَص من الغاز والفحم وصولاً إلى الأخضر المستخلَص من الماء باستخدام الطاقة الكهربائية النظيفة.
معروف أنّ الهيدروجين هو المصدر الوحيد القادر، حتى الآن، على أن يشكّل بديلاً للنفط لتوفير الوقود للقطاعات الكثيرة الاستخدام للطاقة مثل محطات توليد الكهرباء والصناعات الثقيلة كالصلب والإسمنت، والنقل الجوّي والبحري، وتشغيل المعدّات الثقيلة المدنية والعسكرية التي لا يمكن، حتى الآن، تشغيلها بالكهرباء. ويقال إنّ الهيدروجين سيكون نفط القرن الحالي.
سلاح الهيدروجين الأبيض
آخر "إبداعات" أميركا ومجموعة السبع، في حربها ضدّ النفط والغاز، كان سلاح الهيدورجين الطبيعي أو الأبيض. فقد اكتشفوا على "حين غرّة" وجود كميّات ضخمة منه في الطبيعة. ولتبيان مدى "تهافت نظريّة المؤامرة" غير المستحبّة، نشير إلى أنّ وجود الهيدروجين الأبيض معروف منذ عشرات السنين، وموثّق في عشرات الدراسات الجيولوجية لمراكز أبحاث وجامعات، وطبعاً في قواعد بيانات شركات النفط العالمية و"حكوماتها". فقد تمّ مثلاً في العام 1910 توثيق تدفّق متواصل للهيدروجين لمدّة خمس سنوات في منجم ملح ليوبولدشال في ألمانيا. وفي العام 1930 تمّ اكتشاف بئر في جزيرة يورك الأوسترالية، تحتوي على غاز الهيدروجين بنسبة نقاء 80 في المئة، لكن تمّ إغلاقها لأنّه كان المطلوب حينذاك النفط والغاز الطبيعي. وتبقى تجربة قرية بوراكيبوغو في مالي، الأكثر دلالة، حيث اكتشفت شركة هايدروما الكندية خلال عملها في مشروع لحفر آبار للمياه في العام 2012، تدفّق الهيدروجين بكميّات كبيرة وبنسبة نقاء بلغت 98 في المئة. وتبيّن أنّ ضغط المكمن ثابت، فدفع ذلك الشركة إلى بناء محطة صغيرة لتوليد الكهرباء لتكون أول محطة كهربائية تعمل بالهيدروجين الطبيعي في العالم، وهي لا تزال تعمل حتى اليوم.
دخلت أميركا على الخط في العام 2019، حين قامت شركةNatural Hydrogen Energy ، بالإبلاغ رسمياً عن اكتشاف الهيدروجين الطبيعي بكميّات كبيرة في أول بئر تحفرها في نبراسكا. توجد حالياً عشرات المكامن الموثّقة في 15 دولة، من بينها أميركا وفرنسا ومالي، إضافة إلى توثيق وجود الهيدروجين الأبيض في مناجم النحاس في أونتاريو بكندا، وفي مناجم الذهب والبلاتين في جنوب إفريقيا، وفي المحاليل الملحيّة في آيسلندا، وفي حوض ساو فرانسيسكو بالبرازيل حيث يتسرّب الهيدروجين الطبيعي بكميّات تتجاوز مئات الكيلوغرامات يوميّاً. والأهمّ من ذلك كلّه ثبوت وجود الهيدورجين الأبيض في العديد من آبار النفط التي يحتوي بعضها على تركيز مرتفع للهيدروجين في الغازات المصاحبة. أمّا تكاليف إنتاج الهيدروجين الطبيعي فتراوح بين 0.5 ـ 1 دولار لكلّ كيلوغرام مقابل 3.5 إلى 7.5 دولارات للهيدروجين الأخضر، كما يقول رئيس شركة "ناتشيرال هايدروجين" الأميركية فياتشيسلاف زغونيك.
ما الذي يعيق انطلاقة الهيدروجين الأبيض؟
يبدو ان الانطلاقة بدأت فعلاً، ويشكل إصدار وزارة الطاقة الأميركية "استراتيجية وخارطة طريق الهيدروجين النظيف" أواخر أيلول/سبتمبر الماضي، دفعة قوية لهذه الانطلاقة. ولكن هناك بعض المسائل التي تحتاج إلى توضيح وتنظيم. مثال ذلك تحديد ماهية الهيدروجين الأبيض. إذ ينقسم مجتمع الهيدروجين بين فريقين:
ـ يرى الأوّل أنّه مصدر متجدّد يمكن استغلاله وإنتاجه إلى ما لا نهاية.
ـ أما الفريق الآخر فيرى أنّ الهيدروجين مصدر ناضب يتراكم في طبقات تحت السطح كما النفط والغاز.
ذلك يقود إلى المسألة الثانية الأكثر أهميّة، وهي توفير الإطار التشريعي والتنظيمي لاستغلال الهيدروجين. فهل يتمّ تصنيفه وقوداً أحفورياً ويخضع بالتالي لقوانين الهايدروكربون كما في بريطانيا حيث يخضع إنتاجه لقانون الغاز لعام 1986، أم يخضع لقوانين التعدين كما في الاتحاد الأوروبي؟ هناك اتّجاه قوي لاعتباره مصدراً طبيعياً متجدّداً لا تنطبق عليه قوانين التعدين ولا قوانين الهايدروكربون، وهو ما يستدعي تطوير إطار تشريعي وتنظيمي مستقلّ، وهذا ما تعمل عليه حالياً غالبية الدول الصناعية. وتُعتبر أوستراليا في مقدَّم الدول التي قطعت شوطاً طويلاً في هذا المجال. وقامت بالفعل ولاية جنوب أوستراليا بمنح تراخيص للاستكشاف تغطّي ثلث مساحة الولاية تقريباً. وكما يقول رئيس شركة أنجي لم يعد السؤال: "هل يشكّل الهيدروجين الطبيعي مصدراً للوقود"، بل أصبح: "من أين نحصل على تصاريح الاستكشاف" ومن سيكون المنتج الأكبر".
حقل أميركا وبيادر الدول النفطيّة
ذلك كان حساب حقل أميركا، لكنّ حسابات بيادر الدول النفطية مختلفة. فهذه الدول ليست برميل نفط أو كيس قمح أو حتى سجّادة عجمية، بل هي دول لها جذور ضاربة في التاريخ، وتعرف كيف تبني تحالفاتها وتحمي مصالحها وتخطّط لمستقبل شعوبها. وهذه الدول تقوم، في الوقت الذي تحمي فيه عائدات ثرواتها النفطية، بتوظيف تلك العوائد في بناء اقتصاد متنوّع، والأهمّ الدخول بقوّة في سباق تطوير مشاريع الطاقة المتجدّدة، ومنها الهيدروجين الأزرق والأخضر، وربّما قريباً الأبيض.
إقرأ أيضاً: لا علاقة للغاز والنفط... بأسباب الترسيم
لن يكون مستبعداً أن يكون للدول النفطية في المنطقة، التي نجحت في تبوّؤ موقع متقدّم في الخريطة الجيوسياسية في عصر النفط، موقع متقدّم أيضاً في الخريطة الجيوساسية لعصر الطاقة النظيفة، خاصة إذا كان هذا العصر سيقوم على التكتّلات الإقليمية أو "اللامركزية". وعليه لن يكون مستبعداً أن تنجح هذه المنطقة، التي نجحت في بناء سكّة حديد الحجاز، في توسيع مشاريع الربط الكهربائي لتتمّ إضاءة الجامع الأزرق في إسطنبول من كهرباء محطة غزلان السعودية أو من مجمع بنبان للطاقة الشمسية المصري.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :