للحرب الدائرة على الساحة الأوكرانية انعكاسات جيواستراتيجية واسعة النطاق، من المرجح أن تلقي بتأثيراتها على مختلف الفاعلين الدوليين، أياً كانت أحجامهم أو أوزانهم. ولأن القوى المؤثرة على الساحة الدولية جميعها، لا روسيا وأوكرانيا وحسب، انخرطت في هذه الحرب، سواء مباشرة أو بصورة غير مباشر، فضلاً عن كونها حرباً تدار بمختلف الوسائل المتاحة، وليس بقوة النيران أو بالوسائل العسكرية وحدها، يرجح أن تتباين تأثيراتها وانعكاساتها تبايناً كبيراً من منطقة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، كما يرجح أن يكون لمنطقة الشرق الأوسط تحديداً نصيب الأسد من هذه التأثيرات والانعكاسات التي كثيراً ما تتعارض أهدافها وتوجهاتها إلى حد التناقض.
قيل الكثير عن فقدان منطقة الشرق الأوسط أهميتها الاستراتيجية، خصوصاً لدى الولايات المتحدة الأميركية التي بدت في بعض الأوقات وكأنها تنسحب منها تدريجياً، مع أن ما كانت تقوم به لم يكن سوى محاولة لإعادة نشر قواتها ومواقع تمركزها ونفوذها في العالم، بما يتلاءم وأوضاعاً وظروفاً دولية جديدة فرضتها عوامل متعددة، ربما كان أهمها: تنامي قوة الصين في مختلف المجالات وظهورها كمنافس قوي قادر على تحدي الزعامة الأميركية المنفردة، واستعادة روسيا الاتحادية كثيراً من عناصر القوة التي كانت قد فقدتها عقب سقوط وانهيار الاتحاد السوفياتي، وأيضاً بسبب تحولات جذرية بدأ يشهدها اقتصاد عالمي يتجه تدريجياً نحو "الاقتصاد الأخضر"، الأقل اعتماداً على النفط والأكثر استخداماً لمصادر الطاقة النظيفة.
ساعد من صدقية وجدية هذه المقولة شعور متزايد لدى النخبة الأميركية بارتكاب الإدارات المتعاقبة سلسلة من الأخطاء القاتلة، بسبب الاندفاع المتزايد نحو العمل لتغيير الأنظمة التي لا ترضى عنها بالوسائل العسكرية، خصوصاً في أفغانستان والعراق. ولا جدال في أن قرار الانسحاب من هذين البلدين، وإعادة الانتشار في أماكن أخرى، فسح في المجال أمام تمدد نفوذ الصين وروسيا في عدد من دول الشرق الأوسط، سواء باستخدام وسائل اقتصادية، كمشروع "الحزام والطريق" بالنسبة إلى الصين، أو بوسائل عسكرية، كالتدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا وغير المباشر في ليبيا.
غير أن التبعات الناجمة عن اندلاع الحرب في أوكرانيا أثبتت خطأ هذه المقولة وأعادت إلى منطقة الشرق الأوسط أهميتها، كمنطقة لا يمكن لأي قوة طامحة إلى الهيمنة المنفردة على النظام العالمي أن تستغني عنها أو تترفع عن مد نفوذها إليها، وهي أكدت في الوقت نفسه أن كل المحاولات الرامية إلى تحدي هذا النوع من الهيمنة لا بد أن ينعكس بشدة على عملية بناء وإعادة بناء التحالفات في منطقة بالغة الحساسة، بدليل بروز أدوار جديدة لدول شرق أوسطية مهمة، كالسعودية وتركيا وإيران، والكيان الإسرائيلي، وتحوّلها إلى ساحات للصراع المتنامي على النفوذ في المنطقة بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية، بسبب تبعات هذه الحرب أو كنتيجة مباشرة لها، ومن ثم، فليس من المستبعد إطلاقاً أن تؤدي إطالة أمدها إلى تغيرات جوهرية ودائمة في نمط التحالفات التي تربط هذه الدول بالقطبين الروسي والأميركي.
تعد السعودية أحد أهم الحلفاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية، وبلغ التحالف بين البلدين ذروته في فترة حكم دونالد ترامب بين عامي 2017 و2021، وعلى الرغم مما شاب هذا التحالف من توتر بسبب استخدام الإدارات الأميركية المختلفة، خصوصاً الديمقراطية منها، ملف حقوق الإنسان وسيلةً للضغط على السعودية وابتزازها، إلا أنه ظل صامداً ومتماسكاً إلى حد كبير.
صحيح أن توتراً عميقاً أصاب العلاقات الأميركية السعودية في العامين الأخيرين، بسبب سوء العلاقة الشخصية بين بايدن وولي العهد السعودي، غير أن الجانبين حرصا على ألا تتجاوز الخلافات بينهما سقفاً معيناً، وتمكنا تالياً من حماية التحالف بينهما، غير أن الحرب في أوكرانيا جاءت لتلقي بظلال سلبية عليه وتهدّد بكسره. فلجوء بايدن إلى سلاح العقوبات القصوى على روسيا، خصوصاً في مجال النفط، أتاح للسعودية فرصة كبيرة للظهور بمظهر اللاعب المؤثر على مسار الحرب الأوكرانية، من خلال قدرتها على التأثير في سوق النفط وأسعاره، المؤثر تالياً في مدى فاعلية العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا.
وبينما كان بايدن يأمل أن تقدم السعودية على ضخ مزيد من النفط، بهدف خفض أسعاره بما يكفي لإلحاق أكبر ضرر بروسيا، أو على الأقل المحافظة على مستوى الإنتاج عند الحدود التي كانت قائمة قبل الاجتماع الأخير لمنظمة "أوبك+"، اكتشفت السعودية أن مصالحها الخاصة تفرض عليها التوافق مع دول "أوبك+" على خفض الإنتاج، وهو ما عدته الولايات المتحدة انحيازاً لروسيا.
وعلى الرغم من تأكيد السعودية أن هذا القرار اتخذ لاعتبارات اقتصادية وفنية بحتة، إلا أن الولايات المتحدة لم تقتنع بهذا الطرح، وهددت بفرض عقوبات على السعودية وبإعادة النظر في صيغة العلاقات القائمة حالياً بين البلدين.
ولأن الولايات المتحدة اعتادت معاملة حلفائها كتابعين، لا كشركاء، يرجح أن تواصل الحرب الأوكرانية انعكاساتها السلبية على علاقات التحالف القائمة بين الولايات المتحدة والسعودية، وربما تؤدي إلى فصمها.
صحيح أن السعودية سارعت إلى إعلان قيامها بتقديم معونة إنسانية لأوكرانيا قدرها 400 مليون دولار، لإثبات حيادها في الحرب، لكن، لا يتوقع أن يؤدي هذا القرار إلى وقف التدهور المتواصل للعلاقات الأميركية السعودية.
الوضع نفسه ينطبق على العلاقات الأميركية التركية. فتركيا عضو في حلف الناتو منذ عام 1952، ولأنها دولة كبيرة في المنطقة وتتمتع بموقع جغرافي فريد، فقد ظلت الولايات المتحدة تعدها ركيزة أساسية في استراتيجيتها المعادية للاتحاد السوفياتي طوال فترة الحرب الباردة.
وعلى الرغم من تضاؤل أهميتها النسبية في الحلف، خصوصاً عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، وظهور خلافات عديدة بين البلدين في السنوات الأخيرة، وصلت ذروتها بشراء تركيا منظومة الدفاع الروسي (إس 400)، إلا أن البلدين حرصا معاً على استمرار علاقة التحالف بينهما قوية قدر المستطاع. ثم جاءت الحرب في أوكرانيا لتمنح تركيا دوراً لا يبدو أن الولايات المتحدة ترغب فيه أو تطمئن إليه كثيراً، بل وتستشعر خطره، ألا وهو دور الوسيط الموثوق به روسيا.
ولأن حال الثقة الشخصية المتنامية بين بوتين وإردوغان تزداد باضطراد، خصوصاً بعد اقتراح بوتين تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا وتحويل الأخيرة إلى مركز لتخزينه وإعادة توزيعه على أوروبا، وهو الاقتراح الذي تلقفه إردوغان بسعادة وحماسة كبيرتين، يتوقع أن تزداد العلاقات التركية الروسية متانة والتركية الأميركية تدهوراً، حتى إن ثمة من لم يعد يستبعد أن تنسحب تركيا من حلف الناتو في أمد منظور.
على صعيد آخر، يلاحظ أن العلاقات الروسية الإسرائيلية أصبحت مرشحة للتأثر سلباً وبشدة بتبعات الحرب في أوكرانيا. فبعد محاولة "إسرائيل" المستميتة الظهور بمظهر المحايد الحريص على علاقات متوازنة بين كل من روسيا والولايات المتحدة، بدأت مظاهر انحيازها السافر إلى المعسكر الغربي تتضح تدريجياً.
وقد ترددت أخيراً أنباء تشير إلى أن "إسرائيل" بدأت أو قامت فعلاً بتقديم مساعدات متنوعة لأوكرانيا، تشمل أنواعاً من الأسلحة المتطورة، خصوصاً أنظمة الدفاع اجوي، إضافة إلى معلومات استخبارية على درجة كبيرة من الأهمية، ما أدى إلى ردود أفعال غاضبة من جانب روسيا. فقد صرح ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، محذراً "إسرائيل" من أن ثبوت قيامها بتقديم مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا سيؤدي حتماً إلى "تدمير العلاقات بين البلدين".
ويرى مراقبون متابعون للعلاقات الروسية الإسرائيلية أنه لن يكون في مقدور "إسرائيل" التظاهر بموقف الحياد فترة طويلة، إذ ستضطر آجلاً أو عاجلاً إلى إعلان انحيازها الصريح إلى الجانب الأميركي والاعتراف صراحة بكل ما تقدمه من مساعدات لأوكرانيا، خصوصاً العسكرية منها، وهو ما قد يؤدي إلى تدهور كبير في العلاقات الروسية الإسرائيلية، وما ينعكس على تطورات الصراع الدائر على الساحة السورية، ويشجع روسيا على تقديم مساعدات عسكرية لسوريا بما يكفي لتمكينها من إغلاق مجالها الجوي تماماً في وجه الغارات الإسرائيلية.
بقي أن نشير بإيجاز إلى التبعات المتوقعة للحرب في أوكرانيا على علاقة إيران بكل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية. فعلى الرغم من علاقة الصداقة المتميزة بين روسيا وإيران، حرصت الأخيرة على ألا تظهر بمظهر العداء لأوكرانيا، وأن تتخذ موقفاً يتسم بالحياد وعدم الانحياز المطلق إلى الجانب الروسي في حربه في أوكرانيا.
وعلى الرغم من العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وإيران، حرصت الأخيرة ألا تقطع شعرة معاوية مع الأولى، خصوصاً أن مفاوضات غير مباشرة لا تزال تجري بين البلدين تستهدف التوصل إلى اتفاق على شروط وإجراءات العودة الأميركية إلى الاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووي.
غير أن تطور الأوضاع على الساحة الأوكرانية يدفع إيران دفعاً إلى التعبير عن تضامنها مع روسيا ووقوفها استراتيجياً معها. وقد ترددت أنباء في الآونة الأخيرة تشير إلى أن روسيا اشترت صفقة كبيرة من الطائرات الإيرانية المسيرة التي أثبتت فاعليتها الكبيرة في القتال، ما أثار غضب الولايات المتحدة ودفعها إلى الإدلاء بتصريحات شديدة اللهجة تحذر إيران من العواقب، وتهدد بفرض عقوبات جديدة عليها، على الرغم من نفي إيران القاطع لهذه الأنباء.
وفي تقديري أن "إسرائيل" لن تفوت هذه الفرصة لمحاولة إقناع الولايات المتحدة بالكف عن محاولتها العودة إلى الاتفاق النووي، وتبني سياسة جديدة تستهدف العمل لتغيير النظام الإيراني، ولو باستخدام القوة المسلحة، وهو الموقف الذي تريده "إسرائيل".
إذا طال أمد الحرب الدائرة على الساحة الأوكرانية وتعذر التوصل إلى مخرج يقود إلى وقف إطلاق النار، كمقدمة ضرورية للبحث عن تسوية مقبولة من الجميع قبل بدء فصل الربيع، فليس من المستبعد أن يؤدي ذلك إلى انقلاب نمط التحالفات في المنطقة رأساً على عقب، إذ يرجح أن تقترب إيران وتركيا، وربما السعودية أيضاً، بشكل أكبر من روسيا، وأن يسقط القناع عن "إسرائيل" لتظهر من جديد باعتبارها "الدولة" الشرق أوسطية الوحيدة التي لا تستطيع إلا أن ترتبط عضوياً بالولايات المتحدة والغرب.
نسخ الرابط :