يُثار نقاشٌ دستوري في شأن مدى إمكانية ممارسة الحكومة صلاحياتها عند وقوع الفراغ الرئاسي، أيّ عند تعذّر انتخاب المجلس النيابي رئيساً للجمهورية عملاً بالمواد 73 و74 و75 من الدستور، وهو احتمالٌ عالجهُ الدستور في المادة 62 بنصّها: «في حال خلو سدة الرئاسة لأيّ علة كانت، تُناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء»، إنّما جاءت هذه المعالجة في صيغةٍ عامة أثارت إشكالية خلافية في الفقه الدستوري، وتحديداً في حالة الفراغ الحكومي، ما يُحتم الانعتاق عن التحليلات الشخصيّة والسياسية، وانتهاج مسلك الموضوعية في مقاربة النصوص الدستوريّة، وبالتالي التمييز بين شقين:
الشق الأول: عند تشكيل الحكومة
إذا نجحت القوى السياسيّة في مهمة الاتفاق على تشكيل الحكومة، وتعذّر عليها التوافق على انتخاب رئيس الجمهورية بعد انقضاء ولاية الرئيس ميشال عون، عندئذٍ تُناط الصلاحيات الرئاسية وكالةً، وفق المادة 62 من الدستور، بمجلس الوزراء، لكن، في رأينا، بحسب الضوابط التاليّة:
- حدّد المشرّع الدستوري آليةً في إناطة صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء، لا يجوز تجاوزها، وهي الوكالة، تأكيداً منه على أن ممارسة الصلاحيات الرئاسيّة لا يجب أن تخرج عن مسألتين:
أولاً، وإن لم يُحدَّد نطاق نظرية الوكالة في القانون العام خلافاً للقانون الخاص، إلا أنها، بحسب روحية ومضمون قرارات المجلس الدستوري الفرنسي واللبناني، حالة مؤقتة واستثنائية تهدف إلى تأمين استمرارية المرافق العامة، وبالتالي فإنّ ممارسة الوكيل لصلاحيات الأصيل يجب أن تكون محصورة ومقيّدة بالهدف الذي من أجله أُعطيت الوكالة، وهو استمرارية السلطات الدستوريّة منعاً لحدوث أيّ فراغ فيها، بما لا يُجيز - بذريعة الفراغ - التعامل مع الواقع الدستوري الجديد وكأنّ شيئاً لم يحدث على الإطلاق، وتصدر الحكومة، على إثره، قرارات تخرج عن نطاق تسيير شؤون المرافق العامة!
ثانياً: حدّدت الفقرة الرابعة من المادة 7 من الدستور الفرنسي آلية ممارسة الصلاحيات الرئاسية عند وقوع الشغور الرئاسي بنصّها: «في حال شغور منصب رئاسة الجمهورية لأيّ سبب كان... فإنّ مهام رئيس الجمهورية، باستثناء الحالات المنصوص عليها في المادتين 11 و12، سيمارسها مجلس الشيوخ مؤقتاً، وإذا ما كان هذا الأخير بدوره غير مؤهل ستتولى الحكومة ممارسة هذه المهام».
يستشف من هذا النص أن التشريع الدستوري الفرنسي، وهو مصدر هام للنظام الحقوقي اللبناني، لم يقيّد عملية انتقال الصلاحيات الرئاسية عبر الوكالة تماماً كما فعل المشرّع اللبناني، فهذا يدل، بلا شك، على استثنائية التدبير، حيث لا يجوز التوسّع به على غرار النموذج الفرنسي.
- تطبيقاً للحالة الاستثنائية السالف ذكرها، وإنفاذاً لسائر مواد الدستور اللبناني، فليس بمقدور مجلس الوزراء، خلال فترة الفراغ الرئاسي، ممارسة كلّ صلاحيات رئيس الجمهورية، ذلك أن بعضها يُستمد من ذاتيته كطلب إعادة النظر في قرارات اتخذها مجلس الوزراء وفق المادة 56، على اعتبار أن هناك استحالة في أن يرّد مجلس الوزراء قراراً اتخذه بنفسه، والبعض الآخر يُستمد من موقعه في نصوص الدستور، وتحديداً في المادة 50 من الدستور الّتي تُوجب الإدلاء باليمين الدستورية من أجل ممارسة رئيس الجمهورية لصلاحياته، وهو التزامُ لم يخضع له الوزراء عند إتمام عملية انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية، ويدعو، في الوقت نفسه، إلى تقييد صلاحيات مجلس الوزراء، فلا يمكن اعتبار «اليمين» إجراءً شكلياً لا يُحاكم عليه، ولو كان الأمر على خلاف ذلك، لما كان رئيس الجمهورية يُحاسب بتهمة خرق الدستور أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء، علاوةً على أن تطبيق الفقرة الثانيّة من المادة 49 يأتي نتيجةً لإعمال أحكام المادة 50 من الدستور، حين تنصّ على أن: «رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن. يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه...». إذ كيف يُطلب من جهةٍ حماية أشياء غير مؤتمنة، نصّاً، على حمايتها وصيانتها؟! فهذا أمر منافٍ للمنطق.
وسنداً لهذا المنحى من التحليل، لا تستطيع الحكومة، في رأينا، خلال الفراغ الرئاسي، اتخاذ مقررات رئيس الجمهورية التي يشترك معه في التوقيع عليها رئيس الحكومة والوزير المختص وفق المادة 54 من الدستور إلا إذا كانت تطبيقاً لقرار صادر عن مجلس الوزراء، منعاً للالتفاف على المواد 17 و62 و65 من الدستور، فهي مقررات تُستمد من موقع وذاتية الرئيس.
- كما لا يمكن لمجلس الوزراء، بذريعة تطبيق المادة 62 من الدستور، التنصّل من المسؤوليات المُلقاة على عاتقه، إذ إن المادة 60 تنصّ على أن «لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلا عند خرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى»، ولا يجوز للوزراء أن يستفيدوا من هذا الامتياز الحصري للرئيس. فمساءلة الرئيس عند مخالفة الدستور تأتي، مبدئياً، بتجاوز الأصول أو المهل الدستورية المحددة له، في حين أن الوزراء يُحاكمون عند إخلالهم بالوظيفة أو الواجبات المترتبة عليهم، وإلّا تُعطل أحكام المادة 70، إلى جانب المواد 73 و74 و75، وهو تعطيلٌ يهدم المؤسسات الدستورية والهرمية الحقوقية.
الشق الثاني: عند استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة
عند تعذّر تشكيل الحكومة خلال فترة الفراغ الرئاسي، يدور التساؤل حول مدى إمكانية ممارسة حكومة مستقيلة صلاحيات رئيس الجمهورية، لا سيّما أن المادة 64 من الدستور تنصّ على أن «لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا في المعنى الضيّق لتصريف الأعمال»، ما يستدعي التوّقف عند فحوى النصّ ومواقف الاجتهاد والفقه، من خلال محطتين:
- المحطة الأولى: في قراءة متأنيّة للمادة 64 من الدستور، نجد بأن المشرّع الدستوري دعا مجلس الوزراء، كمؤسسة جماعية، في ممارسته صلاحياته، ولو في حدودٍ ضيّقة، ولم يدعُ الوزراء، كأشخاص منفردين، في ممارسة صلاحياتهم، على خلاف الممارسة السياسية الّتي تقود الحكومات إلى الامتناع عن الانعقاد وترك مهمة تصريف الأعمال على الوزراء، بما يغيّر من مقاصد المشرّع.
وبالعودة إلى المادة 62 من الدستور، يتبيّن لنا أن المشرّع أناط، ولو وكالةً، صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء لا برئيس الحكومة أو بالوزراء.
المحطة الثانية: من الثابت، فقهاً واجتهاداً، أن استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة، يلزم حكومة تصريف الأعمال ألا تتجاوز السقف المرسوم لها، وأن لا تتخذ أعمالاً تصرفية أو قرارات تُفرض على الحكومة المقبلة التزامات مالية جديدة، لأنها غير مسؤولة سياسياً أمام مجلس النواب.
لكن، حرصاً على استمرارية المؤسسات الدستوريّة، وتأميناً لمقتضيات مصالح البلاد والعباد، أوجد الاجتهاد، كما الفقه الدستوري، إمكانية حكومة تصريف الأعمال في اتخاذ أعمال تصرفيّة فرضتها ظروف استثنائيّة تتعلق بالنظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي كالحرب والكوارث وسواها... كذلك الأعمال الإدارية التي يجب إجراؤها في مهل قانونية محددة تحت طائلة السقوط، كالانتخابات البلدية أو النيابيّة، الموازنة، رواتب وغيرها. وفي هذه الحالات تخضع قرارات الحكومة إلى رقابة مجلس شورى الدولة ويُبطَل، استطراداً، كلّ قرار حكومي يخالف القوانين.
ولا تُمارس الحكومة، هنا، صلاحيات رئيس الجمهورية إلا ضمن نطاق تصريف الأعمال، وفق ما تقتضيها الضرورة من أجل استمرار مؤسسات الدولة ليس إلا، التزاماً بحفظ واحترام المهل القانونية والدستورية، وكلّ ما من شأن إهماله أن يرتب خطراً على الدولة.
بناءً عليه، نرى بأن المشرّع الدستوري لم يُغلق الباب أمام تعطيل الاستحقاقات الدستوريّة، إلا أنّه لا يجوز أن تبقى الحلول المؤقتة شمّاعة لإسقاط الواجبات الكبرى المُلقاة على المؤسسات الدستوريّة، لأنها وُضعت لفترة قصيرة لم يكن المشرّع يتوقّع إطالتها، وذلك احتراماً لما تبقّى من خصوصية للكيان اللبناني، وفي ظرفٍ استثنائي يقتضي أن تتداعى كلّ الجهود من أجل تفعيل الدولة لا تهشيمها وتعطيلها بالاعتكاف عن واجب تشكيل الحكومة، وتالياً انتخاب رئيس الجمهورية!
نسخ الرابط :