غادر الموفد الأميركي بيروت مخلّفاً وراءه سجالاً داخلياً سيحتاج إلى بعض الوقت، ليس كي يتوقف، بل للتيقن من مآل الشروط المتبادلة اللبنانية ـ الإسرائيلية، وخصوصاً بإزاء مسألتي الحدود والحقوق. أيهما أوْلى لبنان إذا كانت إسرائيل تصر على الاثنتين
مع أن الموفد الأميركي عاموس هوكشتين لم يدلِ بدلوه بعد مقابلته الرؤساء الثلاثة عن محادثاته معهم حيال ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، إلى أن اختار الكلام من محطة «الحرّة»، إلا أن أفضل ما يمكن استخلاصه من حديثه، بما يضمر سخرية وتهكماً، اطنابه أنه سمع منهم تصوراً موحداً لموقف لبنان من الترسيم. كأن كل ما كان يروم الحصول عليه ـ وهذا من باب لزوم ما لا يلزم ـ هو وجود موقف لبناني موحد من مسألة، من المفترض أنها ليست مثار خلاف سياسي ولا طائفي ولا مذهبي ولا فئوي بين المسؤولين اللبنانيين، بل مرتبطة باستحقاق مصيري يقيم في جوف المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة. كذلك تعامل المسؤولون اللبنانيون مع زيارة هوكشتين كما لو أن الموقف الرسمي الموحد هو وحده الإنجاز، وهو المهم وذروة ما فعلوا.
واقع الأمر أن السخرية هذه ستنسحب على السفراء المعتمدين في لبنان عندما يكتبون إلى حكوماتهم عن نتائج محادثات الموفد الأميركي، فلا يجدون أكثر مدعاة للاستخفاف في ما سمعوه، من أن المسؤولين اللبنانيين اتفقوا أخيراً على موقف موحد من حول ثروة وطنية يُعوَّل عليها في إعادة بعث الروح في الاقتصاد الوطني.
خلاصة زيارة هوكشتين إلى بيروت أنه سيحمل إلى إسرائيل الموقف الرسمي اللبناني كي يعود مجدداً بالجواب. إلى حين الوصول إلى هذا الموعد، انتهى لبنان إلى تقديم عرض حرّك الخط 23 قليلاً كي يمسي «23 +»، بغية إخراج حقل قانا من أن يكون منطقة متنازع عليها بين لبنان وإسرائيل. الجواب المفترض من إسرائيل إما الموافقة على الخط المحدث، أو العودة بالنزاع إلى ما قبل القبول بالخط 23، والمقصود بذلك الذهاب إلى استخدام الحد الأقصى للتفاوض عبر إحياء المطالبة بالخط 29.
ما استخلصه متتبعون لملف محادثات الثلاثاء، تركيز لبنان على أن المشكلة تكمن في حدود الحقول، مع أن مكسباً جزئياً ربما يكون مفيداً لبعض الوقت، هو توقف الباخرة عن استخراج الغاز من حقل كاريش في خلال المسار الحالي للمفاوضات غير المباشرة اللبنانية ـ الإسرائيلية، برعاية أميركية.
أما الملاحظات التي يسجلها المتتبعون هؤلاء، فتكمن في الآتي:
1 ـ سواء توقفت الباخرة أسبوعاً أو اثنين أو شهراً حتى، عن استخراج الغاز من حقل كاريش، إلا أن الاستخراج كان بدأ قبل ذلك، قبل جلوس هوكشتين إلى طاولة التفاوض دونما أن يكون لبنان متقيناً من أن حقل قانا الذي يتمسك به كاملاً مليئاً بالغاز. ليس خافياً أن العجلة في الاستخراج معزوة إلى إصرار أميركي يتقاطع مع أوروبا على ضرورة بدء تصدير إسرائيل الغاز قبل فصل الشتاء، تعويض تداعيات حرب أوكرانيا وإقفال الصنابير الروسية. ليس خافياً كذلك أن الوساطة الأميركية الأخيرة تعوّل على تلاقي مصلحتين: أولى أميركية تقضي بتأمين الغاز لأوروبا بديلاً من روسيا، وأخرى إسرائيلية ببيع غازها بأسعار مرتفعة في توقيت مثالي هو حاجة القارة العجوز إليه.
لم يفت بعض مَن أصغى من المسؤولين اللبنانيين الذين اجتمع بهم هوكشتين، في معرض الكلام عن الباخرة تلك، إلى إيحاءاته بموافقة إدارته على وصول الباخرة إلى موقعها الحالي، المتراجع عن الخط 29، مضيفاً أن على لبنان أن لا يُفوّت هذه المرة الفرصة الأخيرة. لفت الانتباه أيضاً سؤاله عن إحداثيات الخط «23 +» الجديد الذي اقترحه لبنان كي يحملها إلى إسرائيل التي ـ كما ذكر أمام المسؤولين اللبنانيين ـ تريد حلاً كي تستفيد من حقل كاريش.
2 ـ ليست الحدود سوى جزء من مشكلة الترسيم. الشق الآخر المكمل لها والأكثر إلحاحاً وجدوى هو الحقوق. مع أنه قال إنه يقف وراء الدولة اللبنانية في ملف التفاوض على الترسيم، إلا أن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله دلّ على الوجه المحجوب، على الأقل بالنسبة إلى الإسرائيليين، من المشكلة وهو الحقوق التي تمكّن لبنان ـ كما إسرائيل في آن ـ من استخراج النفط والغاز من الحقول المتفق على ترسيمها ما بينهما. ذلك ما عناه بالتحدث عن البلوك 4 الذي توقف العمل فيه بذريعة خلو جوفه من نفط وغاز، فيما تبين أن الشركة المكلفة التنقيب أُوعِزَ إليها التوقف عن العمل.
بينما وضع نصرالله معادلة الشمال والجنوب فيحصل التنقيب والاستخراج فيهما على نحو متكافئ، كان رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل يطرح معادلة مشابهة لكن بفروق جوهرية في استنتاجاتها. بعبارة أغضبت الأميركيين قبل الإسرائيليين، قال باسيل إن غاز قانا يساوي غاز كاريش، عانياً أن لا غاز من كاريش ما لم يكن ثمة غاز من قانا، مميزاً سطح الحقلين عن باطنيهما. لم تلقَ هذه المعادلة أيضاً ارتياح هوكشتين وعلق عليها بأن وصفها شعارات يقتضي التخلي عنها.
ما تحدث عنه باسيل حيال الخط 23 الأصلي، بأن يُعهد إلى شركة التنقيب والاستخراج في حقل قانا، على أن تتولى ـ بعد لبنان ـ تسديد حصة إسرائيل دونما أن تكون هذه معنية بالاستخراج. في حجة هذا الموقف أن الحاجة الماسة هي إلى الاستخراج والإنتاج والاستفادة من العائدات. رفض حزب الله الاقتراح واعتبره تطبيعاً مستتراً وإن من خلال شركة ثالثة. رفض حقل قانا منطقة متنازعاً عليها بين لبنان وإسرائيل خشية أن يقود تكريس حصصهما فيه إلى شق الطريق أمام تطبيع. أعاد بذلك تأكيد الموقف نفسه عندما اعترض على ضم رئيس الجمهورية ميشال عون مدنيين إلى الوفد العسكري المفاوض إلى اجتماعات الناقورة، وقال الحزب إن وجود مدني وإن واحداً يُستشم منه تطبيعاً مقنّعاً لا يقبل به على الإطلاق. مع أن حزب الله لم يجد في الجلوس إلى طاولة الناقورة برعاية أميركية أممية تطبيعاً غير معلن.
3 ـ مقدار ما الخلاف حقيقي ومشروع على سطح الحقول، وإصرار كل من لبنان وإسرائيل عليها، إلا أن جوفها هو الأصل. من دون عودة هوكشتين إلى بيروت بضمانات مزدوجة أميركية ـ إسرائيلية حيال إزالة العراقيل من طريق مباشرة لبنان استخراج النفط والغاز من حقوله والسماح للشركات الأجنبية بالعمل داخل حدوده البحرية، فإن التصور اللبناني الموحد لا يعدو كونه حبراً على ورق دخل في مأزق فعلي. لذا تبدو العودة إلى طاولة المفاوضات غير المباشرة في الناقورة مؤجلة إلى حين غير محدود، ما لم تقع مفاجأة تقود الجميع دفعة واحدة إلى الاتفاق بإرغامهم على تنازلات مؤلمة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :