قبل 5 أيام على عودة الموفد الاميركي عاموس هوكشتاين إلى بيروت، قامت السفيرة الأميركية دوروتي شيا بجولة واسعة، وُصفت بأنّها عملية «كسح ألغام» لتفكيك ما أمكن منها قبل وصوله من أجل استئناف مفاوضات الترسيم. وقبلها للحؤول دون أي عملية عسكرية، في مرحلة لا تحتمل فيها المنطقة أي هزّة أمنية. وعليه، طُرح السؤال، هل نجحت في تجاوز المخاطر المقدّرة في ظلّ الاستعدادات العسكرية على جانبي الخطوط البحرية؟
منذ الأربعاء الماضي وبعد عودتها العاجلة إلى بيروت، بعدما أنهت مبكراً عطلتها السنوية في بلادها، قامت شيا بجولة واسعة حكومية وسياسية، في مهمّة توضيح وتحضير لا بدّ منها قبل عودة هوكشتاين، الذي كان غادر بيروت في 8 شباط الماضي من دون ان يحقق أي تقدّم ملموس في مهمّته. فقد فشل الرجل في تحقيق ما طالب به من خطة لتقاسم الثروات البحرية المطمورة، وفق ما تمّ تقديره لشكل وحدود الأحواض في المنطقة المتنازع عليها، كما حدّدتها الدراسات الزلزالية التي أُجريت والتي انتهت إلى اقتراحه الخط المتعرّج في جزء منه، قبل ان يجتاح أجزاء من البلوك اللبناني الرقم 10. وهو بذلك تجاوز مجموعة الخطوط التي رُسمت فوق سطح الماء على تنوعها، متمنياً طي النقاش في شأنها، لأنّ الثروة ليست على سطح الماء بل تحته.
فقد كان واضحاً انّ مقترحات هوكشتاين الجديدة - لو تمّت الموافقة عليها - لكانت قد أنهت البحث في كل ما يعود إلى مشاريع الخطوط بأرقامها المتعددة التي استندت عند ترسيمها الى النقاط الساحلية البرية. وهي اقتراحات أنهت البحث في أهمية صخرة «تخيلت» التي اعتمدتها اسرائيل نقطة انطلاق لرسم الخط المؤدي الى الرقم واحد ومن بعده الى «خط هوف» من جهة، كما بالنسبة الى القاعدة الخراسانية للرافعة الحديدية التي كان يقيمها الأمن العام في الناقورة قبل الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية، التي اعتمدها لبنان في ترسيم الخط المؤدي الى النقطة 29 وفق القانون الدولي. وهي عملية أسقط من خلالها لبنان الاقتراح الاسرائيلي للخط الرقم 1 بعد إلغاء صفة «الجزيرة المأهولة» عن صخرة «تخيلت».
وبعيداً من المناقشات الغارقة في الدفاع عن مجموعة الخطوط المقترحة، والتي ما زالت تحتل مساحة واسعة من الجدل القائم في بيروت، فقد قامت شيا فور وصولها بزيارات شبه يومية، بدأتها بلقاء وزير الخارجية عبدالله بو حبيب، قبل ان تجول على كل من رؤساء أحزاب «الكتائب اللبنانية» سامي الجميل و«القوات اللبنانية» سمير جعجع و«الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، عدا عن اللقاءات التي جمعتها بعيداً من الاضواء مع مسؤولين آخرين أمنيين ومدنيين، عمّمت خلالها توجّهات بلادها الجديدة.
لقاؤها الرسمي الوحيد مع بوحبيب، قالت المصادر العليمة، انّه كان بالنسبة إليها البوابة الديبلوماسية البروتوكولية الإجبارية لنقل مجموعة من الرسائل الى أركان السلطة والحكومة اللبنانية تحديداً، في وقت كان رئيسها نجيب ميقاتي في الاردن. وهي رسائل وصفتها شيا بأنّها عاجلة وتشكّل أجوبة فورية على مجموعة الأسئلة والهواجس اللبنانية التي تلقّتها مع هوكشتاين في الاتصالات التي سبقت حضورهما على عجل الى بيروت. فلفتت إلى انّ ادارتها مستعدة لاستئناف مهمة موفدها الخاص إلى المنطقة، ولكن على قاعدة طروحاته السابقة، ولا سيما منها ما يتعلق برفض البحث مرة اخرى في تعديل المرسوم 6433 ومعه الخط 29 منعاً للحرب في المنطقة. وذكرت انّ هذه الخطوة شكّلت سبباً ادّى إلى تجميد المفاوضات غير المباشرة في آخر حلقاتها التي عُقدت في 5 ايار 2021 أثناء رئاسة السفير جون دو روشيه للوفد الوسيط، وقبل ان يتسلّم هوكشتاين مهماته، ولا يمكن تحميله أي مسؤولية.
كما اكّدت شيا في لقائها مع بوحبيب انّ إسرائيل لا تنوي تجاوز الخط 29، ليس اعترافاً منها بوجوده ولكن من اجل ان لا تعطي أي حجة تؤدي إلى أي عمل عسكري يهدّد به اطراف عدة، ولا سيما منهم «حزب الله». ولمحّت إلى انّ مجموعة من المواقف ستصدر خلال ساعات قليلة على لسان القادة الاسرائيليين المعنيين بملف الترسيم. وبعدما تمنّت نقل هذه الرسالة بنحو عاجل الى رئيس الجمهورية ورئيسي الحكومة ومجلس النواب، أكّدت اهمية انتظار المسؤولين اللبنانيين صدور بيان رسمي باسم الوزراء الاسرائيليين الثلاثة الذين يشكّلون خلية الأزمة في الحكومة الاسرائيلية في شأن حقل «كاريش»، وهم وزراء الدفاع بيني غانتس، والخارجية يائير لابيد، والطاقة كارين إلحرار، لكن ذلك لم يحصل يومها. واقتصرت المواقف المعلنة من تل أبيب على موقف وزير الدفاع لوحده، والذي صدر في الموعد المتوقع اميركياً بعد ساعتين تقريباً على إبلاغ بوحبيب لرئيس الجمهورية بهذه المعطيات، مؤكّدا انّ «الباخرة لن تدخل المنطقة المتنازع عليها ولن تستخرج الغاز والنفط منها».
ولما سأل المسؤولون اللبنانيون عن البيان الوزاري الثلاثي، كان الجواب الاميركي انّ تأجيله ارتبط في انتظار بعض المواقف الطارئة، وقد يكون من بينها موقف الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله مساء الخميس الماضي، وما يمكن ان يستنتجه الجانب الاسرائيلي منه. وبقي الامر معلّقاً حتى بداية عطلة نهاية الأسبوع، فصدر الموقف عن الوزراء الثلاثة ليجدّد تأكيد مضمون البيان المنفرد لوزير الدفاع عندما أجمعوا على تكرار الرسائل الاميركية التي نُقلت الى بيروت بأمانة. ومنها التشديد على «أنّ منصة «كاريش» لن تستخرج الغاز من المنطقة المتنازع عليها». مع تأكيد ما يشكّل رداً على التهديدات التي تلقّتها من انّ «تل أبيب تعلّق أهمية عليا على حراسة مواردها الإستراتيجية، وهي جاهزة من أجل الدفاع عنها وعن أمن بنيتها التحتية، بموجب حقوقها».
واستناداً الى ما تقدّم، يبدو انّ المفاوضات ستكون أكثر جدّية من قبل. فلبنان ينتظر الموقف الأميركي النهائي من هوكشتاين الذي يطالب بالمثل. فهامش المناورة تقلّص الى الحدود القصوى، ولم يعد هناك من مِهَل يمكن احتسابها لدى جميع الأطراف. وإن كان الاميركيون جدّيين في البحث عن مخرج يضمن الحدّ الادنى من المطالب اللبنانية ويمكن تسويقه لدى الجانب الاسرائيلي، فلن يكون لبنان عاصياً، فضمان حقل «قانا» وتصحيح الخط المقترح لحماية أجزاء من البلوكات 8 و9 و10 الجنوبية كاملة، من أبسط حقوقه إن تنازل عن الخط 29 الخاص بالمفاوضات. وعندها يمكن القول انّ العودة الى الناقورة باتت ممكنة وفق القواعد الجديدة التي تضمن فوز الأطراف الثلاثة على قاعدة البرنامج الفرنسي الخاص بالأطفال» Tous le Monde a Gagne». فيكون عندها هوكشتاين سعيداً بما حققه، ويضمن الطرفان اللبناني والاسرائيلي الأمن الكافي لإطلاق برامجهما بمعزل عن الفوارق الشاسعة بما حققه الطرفان حتى اليوم.
وبغير هذه المعادلة إن لم تتحقق، سيكون لبنان مجبراً على دعوة مجلس الوزراء الى جلسة استثنائية تعيد الإعتبار الى الخط 29، وعندها قد تتجّه المنطقة الى حدّ السكين بين الانفراج او الانفجار، وهو ما سيلقي على واشنطن مسؤولية كبرى في تحاشي ما هو متوقع من زلازل أمنية وعسكرية ونفطية.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :