لا تنظر الدول للسياسة الخارجية لواشنطن بثقة وإنما تراقب كل تحركات الإدارة الأميركية بالكثير من الحذر، وحتى المبادرات الاقتصادية الكبرى التي تقدم في ظاهرها فوائد لدول المحيطين الهندي والهادئ - محور اهتمام الولايات المتحدة الآن - لا تبدد مخاوف الدول من واشنطن التي عودت العالم على سهولة تخليها عن حلفائها راكضة نحو مصالحها المتغيرة من حين إلى آخر.
خلال رحلته الأخيرة التي استغرقت خمسة أيام إلى آسيا، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن عن إطار العمل الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهي مبادرة من 12 دولة تسعى للمواءمة التنظيمية، ويرجع الهدف من ذلك إلى تعميق المشاركة الاقتصادية عبر أربع ركائز، وهي الاقتصاد المتصل (البيانات، والقوة العاملة، والمعايير البيئية)، والاقتصاد المرن (سلاسل التوريد)، والاقتصاد النظيف (إزالة الكربون)، والاقتصاد العادل (الضرائب ومكافحة غسيل الأموال).
وتُعَد هذه المبادرة بديلًا ضعيفًا للشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة التي تتزعمها الصين وطُرِحت في يناير الماضي؛ وذلك لأن الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة تتيح للبلدان إمكانية الوصول إلى أسواق بعضها بعضا بينما لا يوفر إطار العمل الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ ذلك.
وأكبر عامل يمكن أن تغري به واشنطن الدول المراوغة لإقناعها بالانضمام إلى نظام عالمي تقوده الولايات المتحدة هو منح هذه الدول إمكانية الوصول إلى أسواقها، ولكن الوضع السام للسياسات الداخلية الأميركية يحول دون ذلك. وهذا لن يؤثر فقط على النجاح النهائي لإطار العمل الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، بل على مجموعة كاملة من الخطط والالتزامات الأميركية الأخرى في جميع أنحاء العالم.
وليس من المستغرب أن إطار العمل الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ لا يتيح للدول الأعضاء فيه إمكانية الوصول إلى السوق الأميركية؛ فنزعة الحماية لدى الولايات المتحدة تسفر عن نتائج عكسية. وحقيقة أن هناك إجماعًا من الحزبين حول إطار العمل لا يشير إلى أنه قد تم التفكير في المسألة جيدًا؛ فالديمقراطيون في عهد بايدن يخشون عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى الساحة مستعينًا في ذلك بالتجارة الحرة كسلاح سياسي ضد الحزب الحاكم.
وقد أثار مشروع قانون “إعادة البناء الأفضل”، الذي أصدرته حكومة بايدن ولم يحصل على موافقة الكونغرس، غضب صانعي السياسات الكنديين لأن أحكامه ستضر بصناعة السيارات الكهربائية في كندا. وفي النهاية، قُضي على مشروع القانون على يد سيناتور من حزب بايدن نفسه، ولكن هذا الصراع أوضح كيف أن السياسة الخارجية الأميركية التي تعثرت بسبب سياساتها السامة لا يمكنها تقديم استثناءات لأحد أقرب حلفاء الولايات المتحدة.
ويؤثر هذا التفكير أيضًا على إطار العمل الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ فهو يشير فقط إلى النية لبدء المفاوضات حول مواءمة المعايير التنظيمية، ولا يتيح الوصول إلى الأسواق بالطريقة التي تتيحها الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة.
وكل الأعضاء الآخرين في إطار العمل الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ أعضاء أيضًا في الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، باستثناء الولايات المتحدة والهند وفيجي. ويشير ذلك إلى أن حتى بعض حلفاء واشنطن يتحوطون بين الولايات المتحدة من جهة والمحور الصيني الروسي من جهة أخرى؛ فالبيان المشترك الصادر عن الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية في نهاية رحلة بايدن إلى سيول لم يذكر الصين على الإطلاق، الأمر الذي يرجع على الأرجح إلى رغبة كوريا الجنوبية في عدم الإساءة إلى أكبر شريك تجاري لها.
وأحد الأسباب الرئيسية وراء قيام دول العالم بالتحوط بين الولايات المتحدة والصين هو أنه من غير المرجح أن تكون واشنطن حليفًا موثوقًا به بغض النظر عمن يهيمن على البيت الأبيض. ففي حين أن ترامب ربما يكون قد أخرج الولايات المتحدة من شراكة المحيط الهادئ واتفاقية باريس والاتفاق النووي الإيراني، فإن السياسة الخارجية لجو بايدن لم تكن نموذجًا للموثوقية أيضًا؛ فقبل بضعة أشهر فقط ندد وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بما أسماه “طعنة في الظهر” من قبل الولايات المتحدة بشأن اتفاقية أوكوس.
أما فيما يتعلق بروسيا، فليس هناك ما يضمن استمرار السياسة الراهنة للبيت الأبيض في حال عودة ترامب إلى الرئاسة عام 2024؛ فقد وصف ترامب بالفعل غزو روسيا لأوكرانيا بالخطوة “العبقرية“.
وفيما يخص الاتفاق النووي الإيراني أيضًا، يبدو أن النقطة الشائكة تتمثل في إصرار طهران على إزالة الحرس الثوري الإسلامي من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية، التي وضعتها حكومة ترامب عليها، على الرغم من نصائح المسؤولين العسكريين الأميركيين آنذاك بأن تلك الخطوة ستكون لها نتائج عكسية.
وفي مواجهة الهجوم المحتمل على حزبه الديمقراطي في انتخابات منتصف المدة المقرر عقدها في نوفمبر من هذا العام، اعترضت حكومة بايدن على مسألة إدراج الحرس الثوري الإيراني على قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية. وقد أدى التأخير في إبرام الاتفاق النووي إلى أنه، حتى لو تم إبرامه، فإن التأخير يعني أن إيران صارت على وشك استخدام قنبلة نووية، وهذا يفسر سبب تصاعد الحرب بالوكالة عبر الطائرات دون طيار بين إيران وإسرائيل في الأشهر القليلة الماضية، والتي من المرجح أن تستمر، سواء أتم إبرام الاتفاق أم لا.
وتعتبر الولايات المتحدة اليوم مثالاً بارزًا على الطريقة التي تقضي بها الديمقراطيات على نفسها؛ فالمؤسسات المستقلة ظاهريًا مثل السلطة القضائية أصبحت الآن مسيّسة تمامًا. وأدى الجمود السياسي في البلاد إلى منع اتخاذ إجراء هادف بشأن القضايا المحلية، مثل مكافحة الأسلحة والهجرة، في حين أن السياسة ما تزال مفعمة بالحيوية في الحروب الثقافية التي لا تنتهي حول العنصرية وقضايا المثليين والإجهاض.
وعلاوة على ذلك، تواجه السياسة الخارجية معاناة أيضًا لأن مجلس الشيوخ الأميركي لم يؤكد بعد العديد من المناصب المهمة بالسفارات، وثمة رسالة وراء عدم وجود سفراء مؤكدين حتى الآن في الهند ورابطة أمم جنوب شرق آسيا، وهي الدول التي من المفترض أن تكون في إطار العمل الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ (الهند عضو أيضًا في الحوار الأمني الرباعي).
وتفتقر السياسة الخارجية الأميركية إلى الاتساق حيث تفرض عقوبات على كتيبة العمل السريع في بنغلاديش بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، لكنها ترفض معاقبة قوات الأمن الإسرائيلية على أفعالها، مثل مقتل الصحافية الفلسطينية – الأميركية شيرين أبوعاقلة الشهر الماضي.
إن برنامج “إعادة البناء الأفضل” الأميركي لمواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية لم يحقق أيّ نجاح، في حين تم تأجيل صفقة الضرائب العالمية “التاريخية” التي توسطت فيها الولايات المتحدة على الشركات متعددة الجنسيات حتى عام 2024 بسبب المعارضة المحتملة في الكونغرس الأميركي.
ونظرًا إلى أن الولايات المتحدة ما يزال لها هذا التأثير الكبير على العالم، فإن عدم اتساقها يجعل العالم أقل أمانًا وازدهارًا، ولذا على الرغم من الإعلان عن إطار العمل الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، فإن أقرب أصدقاء الولايات المتحدة وحلفاءها محقون في التحوط والتخطيط وفقًا لذلك.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :