ليست عملية اغتيال الضابط في الحرس الثوري الإيراني، صياد خدايي، خارجة من سياق الحرب المستمرّة، بأشكال متعددة، بين طهران وتل أبيب، لكنها تنطوي على قفزة جديدة - سواءً نُفّذت بأيدٍ إسرائيلية أو أخرى حليفة - في محاولة نقل المواجهة إلى قلب إيران، التي لا يفتأ تعاظم قدراتها العسكرية وحلفائها يقلق الكيان العبري. والظاهر أن إسرائيل تحاول من خلال هذه العملية، التي يبدو واضحاً أنها حظيت بتزكية أميركية، إيصال رسالة مفادها أن أيّ تسوية بخصوص برنامج إيران النووي لن تكون ملزمة لها في ما يتّصل ببقية مسارات التهديد، وعلى رأسها مسار بناء القدرات في سوريا. على أن تصعيد تلك الاستراتيجية لن يبقى من دون ردّ إيراني تتعدّد احتمالاته، خصوصاً أن طهران كانت أعلنت من خلال قصفها أخيراً منشأة للموساد في تل أبيب، أنها انتقلت إلى مرحلة جديدة في سياق ردودها على العدوانية الإسرائيلية
تأتي عملية اغتيال العقيد في «قوة القدس» في الحرس الثوري الإيراني، حسن صياد خدايي، ترجمة للاستراتيجية التي أعلنها العدو في أكثر من مناسبة، وعنوانها ضرورة نقل المواجهة إلى داخل إيران ومحيطها، في مقابل الاستراتيجية الإيرانية التي أدّت إلى تغيير جذري في معادلات القوة في المنطقة، وهدّدت مكانة الكيان وتفوّقه. وبحسب توصيف رئيس الحكومة الإسرائيلي، نفتالي بينت، قبل عدّة أشهر، فإن هناك «حرباً باردةً بين قوّتَين عظميَين إقليميتَين، تُدار منذ عقود»، لكن ذلك «كان يتمّ من جانب واحد هو إيران، التي كانت تضرب إسرائيل عبر أذرعها ولا يحصل العكس». وحمَّل بينت مسؤولية هذا الواقع «الخطير» كما وصفه، لسلفه بنيامين نتنياهو، «الذي فشل في مواجهة التهديد الإيراني»، والذي يشمل عملية بناء القدرات في سوريا. ويتقاطع هذا الموقف مع ما أكده رئيس الاستخبارات العسكرية، اللواء عميت ساعر، في أكثر من مقابلة، من أن «هنالك قدرات متطوّرة كانت حكراً على الدول العظمى، مثل دقّة الصواريخ والمسيّرات التي تقطع مئات الكيلومترات، وقادرة على إصابة أهداف نقطوية، أصبحت الآن نتيجة دعم إيران بأيدي حزب الله وحلفائها في المنطقة».
ولعلّ السِّمة الأبرز لعملية اغتيال خدايي، هي كونها لا تتّصل بالبرنامج النووي الإيراني، الذي نجحت طهران في أن تفرض حوله معادلة حسّاسة، تقوم على أن أيّ استهداف له ستردّ عليه برفع درجات التخصيب بمستويات غير مسبوقة، ونصْب أجهزة طرد مركزي أكثر تطوّراً، الأمر الذي عزّز موقعها في المفاوضات النووية. إذ تؤشّر مهامّ الضابط المستهدَف إلى أن اغتياله يندرج في إطار محاولة تل أبيب «معالجة» القضايا التي لم تقبل طهران المساومة عليها، بإدخالها ضمن المفاوضات النووية، وهو رفضٌ دفع إسرائيل إلى الإعلان رسمياً، على لسان بينت وغيره من المسؤولين، أنها «غير مُلزَمة بأيّ اتفاق»، وستواصل خياراتها العملياتية العدوانية ضدّ طهران، في مواجهة دعم الأخيرة لحلفائها في محيط الكيان، عسكرياً وتكنولوجيا ومادياً، بعيداً عن المسار النووي. وترجمت تل أبيب ذلك سريعاً بتصعيد عملية نقل المواجهة إلى داخل إيران، بعدما استهدفت قبل أشهر أيضاً تجمّعاً للمسيّرات هناك، في عملية ردّ عليها الإيرانيون بقصف قاعدة لـ«الموساد» في أربيل، مُعلنين في حينه انتقالهم إلى مرحلة جديدة في سياسة الردّ العملياتي. واليوم، عقب اغتيال خدايي، أكّد الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، أن «الردّ حتمي»، الأمر الذي يفتح مروحة من السيناريوات والاحتمالات.
وإذ يؤشّر استهداف ضابط «الحرس» بأسلوب أمني في إيران، وليس عبر عملية عسكرية مباشرة على الأراضي السورية، إلى إدراك قادة العدو أن الخيار الأخير قد يستدرج رداً عسكرياً مضادّاً أيضاً، فهو يُعدّ إنجازاً إسرائيلياً استخبارياً وعملياتياً تكتيكياً، يُضاف إلى «نجاحات» سابقة. على أنه ينبغي التفريق هنا بين بعض «الإنجازات» التكتيكية التي حقّقتها إسرائيل والولايات المتحدة خلال 12 عاماً، عبر اغتيال ستّة علماء نوويين آخرهم فخري زادة، وبين الفشل الاستراتيجي في الرهان على هذا النوع من العمليات لإحباط البرنامج النووي أو منع إيران من تطوير قدراتها العسكرية إلى جانب حلفائها. إذ إنه عندما بدأت تل أبيب مسلسل الاغتيالات في عهد رئيس «الموساد» السابق، مئير دغان، كانت تراهن على إحباط البرنامج النووي من خلال استهداف مفاصله، لكن في اختبار النتائج، تَبيّن فشل هذه الاستراتيجية، فضلاً عن استدراجها ردوداً أو محاولات ردود في العديد من البلدان، وفق ما تتّهم به إسرائيل، إيران. كذلك، يَجدر التنبّه إلى أن ما يميّز عمل «الموساد» في الداخل الإيراني ليس نجاحه في تجنيد أفراد هنا أو هناك، وإنّما تمتّعه بتحالفات مع تنظيمات معادية للنظام تدرّبها إسرائيل وتموّلها وتستخدمها ضدّ إيران، وعلى رأسها منظّمة «مجاهدو خلق». ولا يبدو دونما دلالة في السياق المذكور أن وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، زار قبل أيام من اغتيال خدايي، معسكر «أشرف 3» في ألبانيا، حيث استقبلته زعيمة المنظّمة مريم رجوي، التي دعت المعسكر الغربي إلى الرهان على دعم جماعتها في مواجهة النظام.
على أيّ حال، ليس أمراً عابراً أن ينفَّذ الاغتيال في ظلّ المحطّة الفاصلة التي تدحرجت إليها المفاوضات النووية، وفي الوقت الذي يوجد فيه وزير الأمن الإسرائيلي، بني غانتس، في الولايات المتحدة لبحث الموضوع الإيراني. وبتعبير أوضح، من غير المنطقي أن يعطي بينت، «الموساد»، الإذن بتنفيذ العملية بمعزل عمّا يقوم به غانتس في واشنطن، وخاصة أن هذه الحكومة تراعي جدّاً في خطواتها العملياتية الموقف الأميركي. وسبق أن تمّ الكشف منذ أشهر عن اتفاق بين الطرفين على أن لا يفاجئ أحدهما الآخر، وهو ما يؤكد أن تنفيذ الاغتيال وتوقيته كانا بموافقة أميركية، سواء كجزء من الضغوط على إيران نتيجة تمسّكها بخطوطها الحمر نووياً، أو لكون خدايي يضطلع بمهام تهدّد الأمن القومي الإسرائيلي انطلاقاً من الساحتَين السورية والإقليمية، وهو أمر خارج إطار المفاوضات النووية.
في الخلاصة، تبدو إسرائيل مضطرّة إلى اعتماد خيارات تكتيكية «موسمية»، في مواجهة تعاظم قدرات إيران وحلفائها، والذي بات يشكّل، ببعدَيه النووي والعسكري، تهديداً استراتيجياً للأمن القومي الإسرائيلي. على أن هذه الخيارات لا ترتقي، إلى الآن، إلى مستوى التهديد ووتيرة تصاعده، ولا يُراهَن عليها في تحقيق الأهداف المؤمّلة إسرائيلياً. لكن تل أبيب لا تستطيع، أيضاً، البقاء مكتوفة الأيدي إزاء حجم المخاطر المتزايدة، تماماً كما لا تستطيع التفرّد بقرارات عملياتية تؤدّي إلى تفجير واسع ستكون له تداعياته الدولية.
نسخ الرابط :