ترشيح أربعة من أبناء عرسال إلى الانتخابات لم يكن كافياً لإثارة الحماسة فيها. للمقاطعة الحريرية تأثيرها، لكن لـ«العراسلة» هموماً أخرى. البلدة التي رفعت صور عبد الناصر وأرادت أن تكون رأس حربة لإسقاط بشار الأسد، ركنت أخيراً إلى أنها كانت ضحية في الصراع الاقليمي. لذلك يبدو أنها ارتضت ألا تغضب أحداً. فرغم الفتور، ستكون للجميع حصة من الصحن العرسالي... بما فيهم القوات بفعل المال الانتخابي، رغم سقوط 43 شهيداً من أبناء البلدة على أيدي عناصرها
يعود أهالي عرسال بالذاكرة إلى 22 نيسان 2018، حينما نحروا الخراف للرئيس سعد الحريري الذي زار بلدتهم. يومها، ضرب «دولة الرئيس» على صدره قائلاً: «لن تشعر عرسال بالغبن بعد اليوم. سأبقى معكم بغضّ النظر عن أي ولاءات، والمهم حق عرسال على الدولة. هذا التزام سعد رفيق الحريري لكم».
مرّت 4 سنوات بالتمام والكمال، وبقي الالتزام حبراً على ورق. على الأرجح نسيه الحريري، لكنّ «العراسلة» لا يزالون يتذكّرون. فهم، من جهتهم، نفّذوا ما التزموا به عندما توجّه أكثر من 10 آلاف من أصل 24 ألف ناخب إلى مراكز الاقتراع، وكان للائحة المستقبل منهم حصّة الأسد (7800 صوت)، نال منها ابن البلدة بكر الحجيري أكثر من 5 آلاف صوت.
تضحك «أم هاني» الحجيري وهي تتلو لائحة وعود الحريري، وقبله ابن عمّته أحمد، لأهالي المنطقة وسُجّلت على «لوح الثلج»: «وعدونا بفرص عمل وخدمات اجتماعية، قبل أن يقفل تيار المستقبل المستوصف التابع له في البلدة».
لم يكن الحريري، ولا غيره، يوماً سنداً لـ«العراسلة». مناصرتهم له كانت أقرب إلى التعاطف مع «ابن الشهيد السني». رغم ذلك، أربكهم اعتكافه. «لمين تركنا؟»، تسأل «أم محمّد» الجالسة على كرسي من القش في باحة منزل «على الباطون»، كمعظم بيوت البلدة المبنيّة بعشوائية داخل الأزقة الضيّقة.
أساساً، لا يعرف أهالي عرسال يوماً أن زعيماً سياسياً أنصفهم. وحده ألبير منصور كان ملجأهم. عام 1980 حفر أول بئر ارتوازية لتتوقّف عرسال عن الشرب من مياه اللبوة. كانت أبواب ابن رأس بعلبك مفتوحة لهم. أدخل قسماً كبيراً من أبنائهم إلى السلك العسكري عندما كان وزيراً للدفاع، وألحق غيرهم بوزارة الإعلام عندما كان وزيراً لها. يحفظون لألبير منصور الجميل، تماماً كما يحفظونه للرئيس فؤاد شهاب الذي أدخل الكهرباء إلى البقاع الشمالي من عرسال يوم كان قائداً للجيش. كانت هذه مكافأة البلدة مقابل عودتها إلى حضن الدولة بعدما تمرّدت عليها وتعرّضت لقصف الجيش اللبناني.
كان ذلك منذ سنوات طويلة، قبل أن تطوي الدولة الصفحة على «الرعايا العراسلة». لا يذكر أحد منهم أن الرئيس رفيق الحريري اهتمّ بهم يوماً. صور كثيرة رُفعت في منازل البلدة، من جمال عبد الناصر وكمال جنبلاط إلى معروف سعد وجورج حاوي... صورة الحريري الأب لم تُرفع إلا بعد اغتياله، يقول حسن رايد الذي يعترف ضاحكاً: «قبل عام 2005، لم أكن أعرف الفرق بين السنة والشيعة».
الرجل الذي تربّى في بيتٍ شيوعي لأمٍّ كانت تتحمّل مشقّة الذهاب إلى زحلة أسبوعياً لحضور الاجتماعات السياسية للحزب، وتزوّج من بلدة اللبوة المجاورة، يشير إلى أنّ اغتيال رفيق الحريري كان مفصلياً بالنسبة إلى عرسال؛ «يومها صرنا نسمع الخطاب المذهبي، ويومها قرّر كثير من الأهالي رفع السدود غرباً مع اللبوة الشيعيّة باعتبارها الغول الذي سيأكلنا، وشرقاً مع النظام السوري. ويومها أيضاً صار لسعد الحريري أنصار في البلدة التي لم تُعرف إلا بميولها إلى الأحزاب الناصرية والقومية».
لم يُنشئ تيار المستقبل تنظيماً ذا هيكليّة واضحة في عرسال «وكان العديد من مسؤوليه أشبه بمنتفعين لا ينقلون صورة المنطقة بأمانة إلى القيادة، بحسب كثر من أهالي البلدة. مع ذلك، حصد الحريري شعبيّة مطلقة، وهذا ما يتجلّى بنسبة لا بأس بها من الملتزمين بخياره بمقاطعة الانتخابات، رغم أن هناك أربعة مرشحين من أبناء البلدة، هم: ملحم الحجيري على «لائحة الأمل والوفاء» (الثنائي)، زيدان الحجيري على لائحة «بناء الدولة» (المدعومة من القوات والرئيس فؤاد السنيورة)، محمّد محمود الحجيري على لائحة «ائتلاف التغيير»، ومحمد الفليطي على «لائحة العشائر والعائلات». يُرجّح المتابعون ألا يتعدّى عدد المقترعين الـ6 آلاف. وما يعزّز ذلك عدم تمكّن لائحة «بناء الدولة» من رفع منسوب الحماسة الانتخابية. كثيرون من أهالي عرسال لا يخفون انزعاجهم من أداء السنيورة الذي عمل على سحب المرشح سميح عز الدين لمصلحة المرشح زيدان الحجيري، بعدما أقام الأول مهرجاناً انتخابياً أعلن فيه ترشّحه على اللائحة. قبل المهرجان بساعات، تلقّى عز الدين اتصالاً من السنيورة طلب منه التوجّه إلى «السادات تاور»، حيث طلب منه الانسحاب، في حضور الوزيرين السابقين حسن منيمنة وجمال الجراح. ردّ ابن عرسال بأنّه لا يقبل أن يكون تحت عباءة أحد. كان الاجتماع عاصفاً وبدا فيه السنيورة منزعجاً من تمرّد عز الدين الذي عاد إلى بلدته ونقل تفاصيل ما حصل بحرفيّته. أثار تصرّف السنيورة نقمة العديد من أبناء البلدة من تعامل السنيورة مع «الرجل المستقلّ والمحبوب والمثقف، لمصلحة مرشح يسيطر التأزم على علاقاته مع كثيرين في عرسال».
كان السنيورة مصراً على الحجيري بسبب وجود مرشح من العائلة الكبرى في البلدة (أكثر من 6 آلاف ناخب) على لائحة الثنائي، ما يثير «نقزة» لدى العائلات الأُخرى من سيطرة «الحجيريين» على «القرار المحلي» (نائب حالي، رئيس بلدية، إمام البلدة، منسقو الأحزاب...)، بوجود 3 مرشحين من العائلة نفسها التي تنقسم إلى 4 فروع: أبو علي، مصطفى (منهم النائب بكر والمرشحان ملحم ومحمّد محمود)، أبو قاسم وأبو زيدان (منهم زيدان الحجيري). أرادها السنيورة «ضربة معلم» لتشتيت أصوات «الحجيريين».
متابعون يؤكدون أنّ أسهم محمد محمود الحجيري تبدو مرتفعة، وهو ما ظهر خلال المهرجان الانتخابي الذي أقامه الأسبوع الماضي، إضافة إلى كون الأستاذ الثانوي محبوباً من تلامذته وأبناء البلدة ومعارضته لكل القوى السياسيّة. فيما يؤخذ عليه محاولته التنصّل من تاريخه في حزب البعث العربي الاشتراكي.
رغم ذلك، بحسب المصادر نفسها، لكل مرشح عرسالي حصة من الأصوات تُراوح بين 800 و1200 باعتبار أن كل المرشحين، حتى من خارج البلدة، «يأكلون» من الصحن العرسالي. في انتخابات 2018، نال مرشحو الثنائي أكثر من 200 صوت، واللواء جميل السيّد 200 صوت وألبير منصور أكثر من 400... غير أن ما قد يغيّر في معادلة الأرقام هو ما يتردّد في البلدة عن وضع حزب القوات اللبنانية ميزانيّة 400 ألف دولار لعرسال وحدها، لتعويض خسارتها ثلاثة مرشحين شيعة على لائحتها، وأنها ستدفع 500 دولار أميركي مقابل كل صوت لمرشحها الماروني أنطوان حبشي. هذا، في حال صحّ، قد يرفع الحصيلة القواتية إلى أكثر من 3 آلاف صوت. بعض أبناء البلدة يجاهرون بأنهم سينتخبون حبشي «نكاية» بحزب الله. يقول أحدهم: «أعرف أن القوات مجرمون»، مشيراً إلى 43 شهيداً من أبناء عرسال سقطوا على حواجز القوات وفي مجزرة تل الزعتر، «ومع ذلك سأنتخب حبشي».
العلاقة مع حزب الله
في المقابل، لحزب الله أنصاره الذين يتزايدون. المنضوون في سرايا المقاومة زادوا من 350 إلى 800 ما يعني أن للمرشح على لائحته ملحم الحجيري نسبةً تُعادل نسب خصومه، إضافة إلى تقديمه مساعدات اجتماعية عبر بطاقة «السَّجّاد» ومازوتاً للتدفئة خلال الشتاء الفائت، في حين يضع آخرون ذلك في إطار «المال الانتخابي». مع ذلك، يشير كثيرون إلى أن «خطأ» حزب الله هو عدم خروجه من الدائرة المحسوبة عليه في الترشيحات إذ إن ملحم الحجيري وعائلته «منهم وفيهم». لكنهم يقرّون بأن الرجل «يستحق ترشيحه»، إذ إن «أبو وليد» لم يتزحزح عن مواقفه قيد أنملة في عز التحريض الطائفي على حزب الله ووجود المسلحين الذين أدرجوا اسمه على «لائحة الاغتيالات».
في ديوانٍ عُلّقت فيه صورة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، يشير الحجيري إلى أن «البعض صار يسبقنا إلى الموقف القريب من جو المقاومة». صحيح أنّه عضو اللجنة المركزية في التنظيم الشعبي الناصري، إلا أن الأمر يبدو محسوماً بالنسبة إليه. لن يكون في كتلة أسامة سعد، بل «مع من ترشحت معهم»، من دون أن يرى لترشيح سعد في وجه الثنائي في صيدا تأثيراً عليه أو على التنظيم.
«أبو عجينة».... من سوريا وإلى سوريا نعود!
لم يخرج رئيس بلدية عرسال السابق علي الحجيري من السجن الذي قضى فيه عاماً كاملاً ليقف على الحياد. «أبو عجينة» تعلّم من تجربته. ينقل عنه أهالي بلدته قوله إنّ «حزب البعث جعلني رئيساً للبلدية والأحزاب التي سرت خلفها بعد الثورة السورية جعلت مني مجرماً مصيره السجن»!
صديق «الريّس» اليوم ليس إلا الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي علي حجازي الذي نجح في إخراج نجل «أبو عجينة» من السجن قبل أسابيع. يؤكد «أبو عجينة» أمام أبناء عرسال أنّه سيزور الشام قريباً، بتسهيل من حجازي الذي وعده بـ«تنظيف سجلّه» لدى القيادة السورية ليتمكّن من التنقل بحرية في سوريا. وهو كان حاضراً في الإفطار التكريمي لحجازي. لا يتردّد الرجل في القول بصوتٍ مرتفع: «صوتي لحلفاء سوريا. شو إجاني من مخاصمتهم؟». لكنه، في لقاء مع «الأخبار»، يكتفي بابتسامةٍ حينما يُسأل: «مع مين إنت؟»، ويجيب: «عم راقب وشوف»، من دون أن ينكر أنه صار مقرّباً من البعث. وعن إمكانية توجهه إلى سوريا، يؤكد: «إيه يمكن اطلع قريباً وما في شي عليّ»، مشدّداً على أن «الإعلام شوّه صورتي، ولكنني لستُ نادماً على ما فعلت، إذ إنني جنّبتُ عرسال مصيراً أسوأ وحميتها، وأهل عرسال يعرفون من أكون، وهم يكنّون لي المحبة والاحترام، وهذا ما أُريده». وعن دور حجازي في إخراج نجله محمد، يقول: «أخذوا أولادي الـ3 ولفّقوا لهم التهم، ولكنّ أولادي أبرياء».
17 عاماً من العزلة
17 عاماً من العزلة عاشتها عرسال غالى بعضهم فيها في رفع الشعارات المذهبية، «كنا نريد أن نسقط النظام السوري أكثر من السوريين أنفسهم»، يقول مسعود عز الدين، الذي يتحدّث عن ارتباط عرسال التاريخي مع سوريا «التي تُعد أقرب لنا من بعلبك».
لم تنتهِ العزلة بعد، لكنّ كثيرين من الأهالي، حتّى ممن رفعوا راية العداء للنظام السوري، صاروا اليوم يُجاهرون بضرورة «التوجّه شرقاً»، وينتظرون بفارغ الصبر إعادة فتح معبر الزمراني مع سوريا. هذا ما يفسّر ارتفاع أعداد المنضوين في حزب البعث (218) وسرايا المقاومة من 350 إلى 800. تقول «أم هاني» الحجيري إن معظمهم يتعاملون مع بطاقات الانتساب إلى الأحزاب القريبة من النظام، كبطاقات تسهيل مرور إلى الأراضي السورية، ولإعادة العلاقات التجاريّة مع بلدة اللبوة.
وهذا أيضاً ما تؤكّده نائبة رئيس البلديّة ريما كرنبي التي تلفت إلى أنّ الكثيرين من أهالي البلدة صاروا مقتنعين بأنّ إسقاط النظام السوري من عرسال غير قابل للصرف، وأن «استباق السوريين بخطوات في المُعارضة ألحق الضرر بأهالي البلدة أكثر بكثير ممّا نفعهم».
ورقة الشيوعيّ البيضاء
تدمع عينا «أم نضال» عندما تتذكّر يوم رقص الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي الدبكة «على الأول» في أحد أعراس البلدة في السبعينيات. ليست هذه الذكرى الوحيدة المطبوعة في ذاكرتها عن الحزب. «كلنا هون كنا شيوعية ويساريون»، تقول الثمانينيّة، قبل أن تنقلب الأمور ويطغى الخطاب المذهبي على ألسنة أهالي البلدة. يقول مسؤول الحزب الشيوعي في عرسال خالد البريدي إنّ «الصراع الطائفي رفع سقف الانقسام العَمودي في البلدة ما أثّر على العلمانيين وأكل من أجسادهم، لتتدنى نسبة وجودهم إلى ما دون الـ3000 صوت (غالبيتهم من الشيوعي)». يقر البريدي بأن الشيوعي «غير قادر على الحشد وتوحيد كلمته في الانتخابات الحالية، خصوصاً أنه غير مشارك في الاستحقاق في دائرة البقاع الثالثة». ويتحسّر على «وقوف حزب الطليعة ومنظمة العمل الشيوعي في وجهنا عندما طالبنا بالتصويت على استقلالية تمويل الحملة الانتخابية للائحة المعارضة في البقاع الشمالي، ما أدى إلى فكّ التحالف وانسحاب المرشحة التي كان يدعمها الحزب الشيوعي نائبة رئيس البلدية ريما كرنبي». عليه، يقف «الشيوعي» الذي كان يملك منذ عشرات السنوات غالبية أصوات الناخبين في عرسال، على الحياد في المعركة. الخيار الأنسب، يقول البريدي، هو في «الورقة البيضاء» مع علمه أن الملتزمين لن يتعدوا الـ100.
البعث راجع!
يحاول حزب البعث العربي الاشتراكي إحياء علاقاته في بلدة عرسال. منذ أن عُيّن علي حجازي أميناً عاماً للحزب وهو يتردد بين أزقة البلدة ويعيد الحنين إلى «الرفاق القدامى» حيث للحزب جذور تاريخية. تمكّن حجازي، خلال شهر، من رفع عدد المنتسبين من 100 إلى 218. السبب في ذلك، بحسب أهالي البلدة، وعود بإزالة أسمائهم عن لوائح المطلوبين ما يتيح لهم الدخول بحرية إلى الأراضي السوريّة مع تأمين أوراق تسهيل مرور (خط عسكري). كما يجهد الرجل لدى الأجهزة الأمنية والقضائية لمعالجة الملفات الأمنية للمطلوبين من البلدة، كإخلاء سبيل موقوفين في السجون اللبنانية والسورية ممن لا علاقة لهم بما حصل داخل عرسال إبّان وجود المسلحين فيها. والأهم، وفق الأهالي، هو وعدهم بإنهاء أزمة الأراضي التي يملكها بعضهم داخل سوريا وتكلّفوا فيها نفقات إنشاء مشاريع زراعية ويُمنعون اليوم من زيارتها والاهتمام بها.
لم يكن تفصيلاً أن يحضر العشرات الإفطار الذي أقامه توفيق الحجيري تكريماً لدور حجازي في إعادة 3 شبّان من البلدة كانوا محتجزين داخل السجون السورية. ينوّه الكثير من أهالي عرسال بدور حجازي، في حين يعتبر آخرون أن الأمين العام للبعث يريد إثبات حيثيته الشعبية بغية حجز مقعد له في الانتخابات المقبلة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :