لم يعد الوقت في مصلحة الرئيس سعد الحريري. الضغط عليه يتعدى وقف دوره السلبي لمصلحة موقف مماثل لدار الفتوى. وليس مستقبله السياسي المطروح للبحث، بل مستقبل السنة ما بعد الانتخابات رهناً بنتائج الكتلة المعارضة
تأخر الرئيس سعد الحريري في إعلان موقف واضح من ضرورة المشاركة في الانتخابات النيابية. وهو الموقف الذي يراهن عليه بعض حلفائه ويضغط رعاته الإقليميون لإصداره مبكراً. الموقف المنتظر، رغم سعي فريقه حتى اللحظات الأخيرة لإبعاد الكأس المرة عنه، يتراوح بين حدّين: إما ألا يأتي أبداً، فيكون بذلك قد أحرق كل أوراق عودته سنياً ولبنانياً وخليجياً، إلى لبنان، لأن ما يقوم به ضد حلفائه السنة والمعارضين المسيحيين والدروز يكرس أكثر فأكثر خطراً على مستقبله السياسي بتحوله مجدداً إلى خانة غير المتجاوبين مع نصائح عربية، ويرسم ظلاً على وضع تياره واستطراداً بعض الوسط السني وعلاقته بالمكوّنات الأخرى. وإما أن يأتي في موعد لاحق فيكون أصبح بلا جدوى عملية، لأن ثمة من اعتبر خليجياً أنه بانتظاره إلى اللحظات الأخيرة أصبح متأخراً جداً، وفي موقع الخاسر نهائياً في جميع الأحوال. فما هو مطلوب من الحريري في أقل الإيمان ليس فقط وقف دوره السلبي، بل المبادرة سريعاً إلى موقف يماثل موقف دار الفتوى شكلاً ومضموناً. إذ كان يجب أن يتلقف مظلة محلية أمّنتها دار الفتوى لقرار المشاركة السنية الأبعد من بيروت.
يراكم الحريري خسائره السياسية محلياً وإقليمياً. خسر أولاً ورقة التأييد الشعبي الجارف التي حمته منذ عام 2005، ثم تأييد حلفائه من المقربين منه إلى الأبعدين، وخسر رعاته الإقليميين. لكن رغم ذلك، أعطت إطلالته وموقفه المنكفئ هالة عاطفية حافظت له على زعامة البيت السني، رغم التسوية الرئاسية التي خسر بموجبها جزءاً من قاعدته وقاعدة أصدقائه. فخرج من لبنان لكنه لم يخرج خالي الوفاض. إلا أن ما أفقده الوهج السياسي أنه مع اختلاف رؤيته ورؤية سياسيين معارضين للتسوية ولمقاطعة الانتخابات، تعامل مع الجميع على قاعدة تصفية حسابات شخصية، حتى مع أقرب المقربين إليه، أي الرئيس فؤاد السنيورة وشخصيات في تيار المستقبل، قبل أن يضاعف من استهداف الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية. وتدريجاً، راحت كرة اعتراضاته تكبر تجاه كل ما يقف في وجه قرار عدم خوض الانتخابات. لم يخض السنيورة أو كل النواب السابقين والحاليين والمرشحين من السنة المعارضين معركة الانتخابات على قاعدة سحب الزعامة من يد الحريري، لكن الأخير ومن حوله تعاملوا مع الجميع على هذا الأساس، فتصرفوا برد فعل غير احترافي، وعدم نضج سياسي بدليل الكلام عن إعطاء السنيورة أو المعارضين السنة شرعية لحزب الله بمجرد مشاركتهم في الانتخابات.
في الأيام الأخيرة ارتفع منسوب الحث الخليجي، وليس السعودي وحده، على مشاركة السنة في الانتخابات. فالمقاطعة أصبحت كلاماً من الماضي، والمشاركة السنية لم تعد حتمية فحسب، بل إن العمل جار عليها لرفع مستواها وإن لم يكن على غرار ما جرى في انتخابات عام 2009، بمعنى التصويت الجارف، بل على الأقل كي لا تكون شبيهة بتصويت عام 2018. وأي تراجع في الاقتراع السني، سيحاول تيار المستقبل استثماره في مصلحة مقاطعته الانتخابات، علماً أن فئة المترددين لا تزال مرتفعة عند كل الطوائف والدوائر بما في ذلك بيروت الثانية.
وفي الوقت نفسه، فإن العمل جار على وقف مشاركة لوائح معارضة في بعض الدوائر ليصب التصويت لصالح لوائح معارضة محدّدة وحدها فتتضاعف حينها فرص الفوز. وبذلك يستثمر الصوت السني في مكان واحد. والعمل يتعدى بيروت لتعطي دوائر الشمال والبقاع نموذجاً عن التزام تام بقرار المشاركة السنية المعارضة. وسيكون مثلاً لبلوكات العشائر العربية والعائلات وتصويتها غير الملتبس، مع ارتفاع نسبة التصويت السني في الشمال والبقاع، مشاهد تعكس تجاوباً مع قرار المشاركة في الانتخابات الذي دعت إليه دار الفتوى ومن وراءها.
هذا قبل الانتخابات، أما بعدها فحديث آخر. لأن رفع نسبة التصويت وكسر أي قرار بالمقاطعة وتحقيق السنة المعارضين فوزاً يجير لاحقاً إلى تكتل معارض عريض، من شأنها أن تترك تأثيراتها في مستقبل الحريري السياسي. فبين القائلين بنهاية إرثه السياسي وبين تحول تيار المستقبل حزباً سياسياً من دون حضور نيابي أو وزاري، من الصعب تصور المشهد ما بعد 15 أيار، لأن تياراً سياسياً من دون عصب نيابي ومعزولاً من التحالفات التي حرق جسورها، سيكون تياراً أعزل من الصعب عودته إلى أي من المواقع الأولى، وسبق لتيارات سياسية أن اندثرت في أوضاع مشابهة. ودخول المعارضين السنة إلى الانتخابات كان يمكن أن يشكل فرصة الحريري للنزول عن الشجرة التي صعد إليها، رغم أن الوقت لم يفت بعد بالنسبة إلى الأجواء المعارضة. فإذا كان الهدف تشكيل أكثرية نيابية معارضة أو قطع الطريق أمام تشكيل أكثرية نيابية موالية، فلا السنة وحدهم ولا المسيحيون ولا المجتمع المدني والمستقلون قادرون على ذلك، بل إن تكتلاً نيابياً معارضاً هو الأقدر حتى على تسمية رئيس الحكومة المقبل، وهنا سيكون للمعارضين السنة كلمتهم وحضورهم بعد 15 أيار. هذا هو لب النقاش محلياً وخارجياً. ومشكلة الحريري أنه لم يلتقط بعد الإشارات التي أرسلت إليه ولا الكلام المباشر.
نسخ الرابط :