قبل 4 سنوات، شكّل شيعة جزين القوة الناخبة الأولى في القضاء، إذ صوّت حوالي 6 آلاف ناخب منهم من أصل حوالي 10 آلاف. من بين هؤلاء «بلوك» من خمسة آلاف و 510 ناخبين صبّوا الصوت التفضيلي للنائب ابراهيم عازار من أصل حوالي 11 ألف صوت أوصلته إلى ساحة النجمة. في 2022، طمحت أطراف عدة للظفر بأصوات البلدات الشيعية السبع في جبل الريحان التي من شأنها أن تؤمن فوزاً سهلاً لمن تناصره. فمنذ انتخابات 2009، تشكّل أصوات هذه القرى كتلة متحدة يتم تجييرها التزاماً بتحالفات ثنائي حركة أمل وحزب الله بشكل شبه كلي ومضمون. لكن بعض الاعتراضات بدأت تخرج من الريحانيين، احتجاجاً على «انتخابات بالوكالة»، يمنحون فيها أصواتهم لنواب لا يجدون داعياً لاسترضاء ناخبيهم بخدمات أو حتى بجولات
في إطار التصويب السياسي على النائب إبراهيم عازار، وقبله على والده النائب الراحل سمير عازار، أنهما «غير مسيحيين» بسبب حجم أصوات الناخبين الشيعة الذين يقترعون لهما. وهي «تهمة» يصحّ أن توجّه إلى كل المرشحين في قضاء جزين، المدينة التي كانت قبل أقل من 200 سنة شيعية. فعروس الشلال التي تشهد أعنف المعارك الانتخابية، وكأنها معركة وجودية للمسيحيين، يحتاج فيها المرشحون إلى الشيعة كمكوّن انتخابي رئيسي. الأمر كان كذلك منذ الاستقلال. ما تغيّر هو أن غالبية المرشحين لم تعد تتواصل مع الناخبين، بل مع مرجعياتهم السياسية التي حُصرت بها الخدمات والمشاريع والتوظيفات على أساس طائفي.
بعد الاستقلال، كان المرشحون إلى النيابة في جزين بحاجة إلى التواصل المباشر مع الناخبين من «شيعة جزين»، في البلدات السبع في جبل الريحان (الريحان، كفرحونة، روم، سجد، اللويزة، عرمتى، ومليخ). يقول نجيب ناصر الدين (79 عاماً) لـ«الأخبار» إن «الصوت الشيعي في المنطقة، حتى عام 1992، لم يكن ذا تأثير رئيسي بسبب تباين التصويت حتى داخل العائلة الواحدة. وترشُّح شخصين من جزين على لائحة واحدة هو من كان يحسم النتيجة لصالحها، بسبب تكتل أهل المدينة في وجه مرشحي القرى». هذا ما حصل في انتخابات 1972، عندما فازت لائحة الجزينيين إدمون رزق وفريد سرحال مع نديم نقولا سالم على لائحة جان عزيز. مع ذلك، يعود الفضل في «تنمية» المنطقة، بحسب ناصر الدين، إلى الحملات الانتخابية لمرشحي جزين. ففي دورة 1953، زار مارون كنعان سجد على ظهر «دابّة» في إطار جولته الانتخابية، إذ «لم يكن للقرية طريق. كانت السيارة تصل إلى ساحة الريحان ومنها يترجّل الأهالي حاملين أغراضهم نحو سجد سيراً على الأقدام أو على ظهور الدواب». لم يشق كنعان الطريق، لكنه وصل سجد بكهرباء زحلة واستضاف أبناءها في منزله في جزين عندما كان الثلج يقفل الطريق.
بعد زلزال 1956، شُقت الطريق بمساعي النائب نقولا سالم. فبعدما تضررت منازل سجد جراء الزلزال، رفض المختار أيوب ناصر الدين تسلم التعويضات (مواد بناء) من مصلحة التعمير إلا بعد شق الطريق. وافقت الدولة على المشروع، لكن طرأت عراقيل. استنجد الأهالي بسالم الذي دفع جزءاً من كلفة شق الطريق من اللويزة الى مليخ وعرمتى فالريحان وسجد. كما أوصلت مساعي سالم مياه نبع الطاسة إلى سجد وجاراتها. يلفت ناصر الدين إلى أن سالم أراد استثمار خدماته في انتخابات 1957، «بعدما كان قد زارنا عام 1955 معاتباً لأننا لم ننتخبه في دورة 1953. قرّر أهالي سجد ردّ الجميل له في الانتخابات المقبلة، لكن ما كملت». فقد ضم مجلس النواب، برئاسة عادل عسيران، سجد الى قضاء النبطية. وبحكم تملك آل عسيران عقارات فيها، انتخبت سميح عسيران. «طلب وفد من الأهالي دعم النائب الجديد للحصول على حصة أكبر من حقول التبغ التي وزعتها إدارة الريجي، لكنه لم يلبّ». شعروا بأنهم بلا مرجعية، فقصدوا رئيس المجلس الجديد صبري حمادة وطلبوا إعادتهم إلى حضنهم الجزيني. وأولى بشائر العودة كانت حصولهم على ما أرادوا من أراضي التبغ بمساعي سالم. لذلك، منذ دورة 1960 وحتى دورة 1972 عندما ترشح نجله نديم، «نذر» أهل سجد أنفسهم انتخابياً لسالم ونواب لائحته، وأبرزهم الكتائبي إدمون رزق الذي انتخبوه (ضمن لائحة سالم) في دورة 1968. من أبرز خدمات رزق، السعي لمسح أراضي البلدة كأملاك خاصة وإنشاء ثانوية في الريحان. هكذا، حصّلت سجد وجاراتها، عبر الحملات الانتخابية، بعض حقوقها على الدولة، و«لذلك، لم نكترث للانتقادات التي طاولتنا لانتخابنا رزق الكتائبي ولا سيما بعد اندلاع الحرب الأهلية. فقد كان رزق أقرب إلينا اجتماعياً وخدماتياً من مرجعيات شيعية، وكان يشاركنا في حضور مراسم عاشوراء في الحسينيات» قال ناصر الدين. لكن ما عصت عنه الحرب، فرضه السلم. بسبب الموانع الطائفية والسياسية زار وفد من قرى جبل الريحان رزق عام 2009، وبرّروا له عدم قدرتهم على انتخابه والتزامهم بمرشح حركة أمل سمير عازار. في دورة 2018، لم يحظَ نجله، أمين إدمون رزق، سوى بـ 18 صوتاً تفضيلياً شيعياً. المشهد نفسه تكرر عام 2018 مع أمل أبو زيد الذي «لم ينصره» شيعة بلدته مليخ وجاراتها كما فعلوا في الإنتخابات الفرعية عام 2016 عندما فاز للمرة الأولى نائب جزيني من قرى الريحان. الخدمات والتوظيفات والمساعدات المادية التي أغدقها أبو زيد على أهل منطقته، طوال سنوات، لم يجن منها سوى 269 صوتاً تفضيلياً شيعياً بسبب التزام الناخبين باتفاق الثنائي بانتخاب إبراهيم عازار، وهو ما قد يتكرر في الإنتخابات المقبلة.
في زمن الاحتلال الإسرائيلي، علّمت إكرام إدريس في «ثانوية رزق» في الريحان. لم يبق من ذلك الزمن المختلط سوى ذكريات، يسردها الكبار ومنهم والدها أبو أكرم (95 عاماً) الذي كان مفتاحاً انتخابياً لـ «السياد»، وهم عائلة زين الذين كانوا يناصرون كنعان أو سالم قبل أن يوالوا بعد تحرير البلدة حزب الله. الريحان التي انقسمت بين حلفاء «السيّاد» ومناصري آل الأسعد، لم ترث بعد التحرير منافسة على استرضائها كما كان يفعل نواب جزين قبل الحرب الذين كانوا يزورونها دائماً.
حينها، كانت العلاقات الاجتماعية والخدمات مفاتيح الولاء إلى درجة وجدت معها الأحزاب الوطنية صعوبة في اختراق نسيج العائلات. رئيس بلدية الريحان الأسبق محمد فقيه كان من أوائل أعضاء الحزب الشيوعي في البلدة عام 1968. حاول مع رفاق له في الفصائل الفلسطينية وحزب البعث تأسيس النادي الثقافي الاجتماعي في كل من الريحان وجاراتها «لخلق حالة وعي تحرر الناس من التبعية. لكن سرعان ما شلّ عمله نهائياً بسبب تحكم العائلات به عبر بعض الأعضاء، باستثناء نادي مليخ».
لم تستفد بلدات الريحان من صعود نجم الأحزاب الوطنية منذ السبعينيات بسبب الاحتلال والتهجير اللذين تحولا بين أبنائها إلى عامل جذب للانضواء في حركات المقاومة وصولاً إلى حزب الله. مع ذلك، تمكّن فقيه اليساري، في الانتخابات البلدية الأولى عام 2001، من الفوز كرئيس بلدية توافقي بغالبية الأصوات. لكنه عاد واصطدم بنفوذ الحزب وأمل في إنجاز المشاريع. طوال تجربته التي استمرت حتى عام 2004، لم يستفد من نواب جزين. وفي هذا السياق، يستذكر فقيه الذي توظف في مرفأ بيروت بـ«واسطة» من إدمون رزق قبل الحرب، كيف ردّ النائب سمير عازار على طلب دعمه في إحدى الوزارات: «ما في حركة أمل بالريحان؟!».
حوزة جزين
يلفت الباحث الجزيني غسان رحال إلى أن الشيعة وفدوا للمرة الأولى إلى جبل عامل، ومنه إلى جزين (التي كانت مسيحية حينذاك)، في العهد الأموي مع الصحابي أبي ذر الغفاري. تضاعفت أعدادهم في جزين ومحيطها بعد هروبهم من مجازر كسروان على يد المماليك الذين كانوا قد طردوا المسيحيين منها في وقت سابق. بدءاً من القرن الثالث عشر، صارت جزين كلها شيعية، وتحولت قبلة علمية بعد منع الشيعة من الوصول إلى حوزات النجف الأشرف. أبرز علمائها وأشهرهم على مستوى العالم الإسلامي، الشيخ الجزيني مكي بن حامد ثم ولده محمد بن مكي اللذان جذبا الأساتذة والمشايخ من النواحي الشيعية، للتدريس في «مدرسة جزين» نظراً إلى مستوى مواد العلوم والفقه التي درّستها. في تلك الفترة، اشتهر البيت الشعري: «اذهب إلى جزين يا مُستبعد النجف». بعد 14 عاماً، أُغلقت المدرسة بسبب التضييق الذي مارسه المماليك بعد قتلهم محمد بن مكي الذي عُرف بـ«الشهيد الأول»، وتشتّت العلماء بين جباع وحناويه، وطبّق المماليك نظام «المقدمين» على شيعة جزين ودروز الشوف لكي لا يمنحوا زعماء المنطقة لقب «أمير». وتولى المقدمون في الشوف وجزين استقدام مسيحيين من الشمال والجبل تلبية لأوامر العثمانيين بعد عام 1516، ليكونوا عمالاً موسميين في الأراضي التي يملكها الإقطاع. وعندما تسلّم الأمير فخر الدين الثاني الحكم، اقترح على العمال الاستقرار في مناطق عملهم بشكل دائم بدلاً من العودة إلى مساقط رؤوسهم عند بداية الشتاء. بحسب رحال، تدخل البطريرك الماروني للحفاظ على ديانة العمال بين الإقطاع الدرزي والشيعي. بموافقة العثمانيين، أشرف عليهم الكهنة الذين شيّدوا كنائس وأسّسوا إرساليات. الوئام في المثلث الدرزي الشيعي المسيحي استمر حتى الأحداث الطائفية عام 1860، عندما هرب المسيحيون من جزين ولاذوا بالشيعة في جبل الريحان وجبل عامل. ومع تفاقم الأوضاع، باع شيعة جزين منازلهم وأراضيهم للعمال المسيحيين والتحقوا بأقربائهم في جبل عامل والريحان.
نسخ الرابط :