ليست قليلة الاسباب المكدِّرة لانتخابات 15 ايار، كي تجعل حظوظ اجرائها مساوية لحظوظ تأجيلها. لا المال، ولا الاستعدادات اللوجيستية، ولا الانهيار المتواصل، ولا المواجهة المفتوحة في كل صوب. اما المكدّر الاكثر اثارة للاهتمام، فهو الغياب المفترض لطائفة
مذ علّق الرئيس سعد الحريري وعائلته وتيار المستقبل العمل السياسي الى وقت غير محدد، وأوحى للبعض بأنه اعتزال، تكشّف واقع خطير يدعو الى القلق، هو ان طائفته لم تعد فحسب بلا قائد في نظام اعتاد سياسيين يقودون طوائفهم، بل بانت كأنها بلا حاضر ولا مستقبل. متروكة. تمتثل لارادة زعيمها، لكنها تخشى الاستباحة.
أدركت هذا الشعور عند اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي نجح في دورتين انتخابيتين فقط، في ان يختصر في ذاته طائفته برمتها. ذلك ما لم يكن لأي من اسلافه الزعماء السنّة الكبار، كالرؤساء رياض الصلح وسامي الصلح وصائب سلام ورشيد كرامي وتقي الدين الصلح، الذين احتاجوا الى عقود لبناء زعامة كانوا قد ورثوا نصفها، إما من الآباء او من الريادة التاريخية للبيت نفسه. كذلك تطلّب الرئيسان عبدالله اليافي وسليم الحص وقتاً مماثلاً، من غير تحدرهما من بيت سياسي.
ورث الحريري الابن من الحريري الاب اختصار الطائفة في نفسه بانتقال مفاجىء، لم يكن تحضّر له. وربما لم يكن في الوارد ان يكون حيث احاله عليه اغتيال والده. رغم افتقاره الى الكثير مما في الحريري الاب، رافقت زعامة الحريري الابن الصورة التي لم تفارق طائفته، وهي مقتل الاب على ان خلفه المؤتمن على المهمة نفسها. تجلى ذلك في اسطع صوره في انتخابات 2005 و2009، عندما ظهر التصويت السنّي في كل لبنان، وليس في بيروت فقط، كأنه استفتاء على والده، كما لو لم يغب، او في احسن الاحوال بات منوطاً بابنه ان يثأر لاغتياله. أُعطي الابن ما لم يُعطه السنّة اللبنانيون للحريري الاب في دورتي انتخابات 1996 و2000، وهو ان يمسي زعيمهم الوحيد على نحو ما اضحى عليه بعد 14 شباط 2005.
بسبب هذا الوزر الثقيل، افصح تعليق الحريري العمل السياسي ومغادرته لبنان عن سقوط طائفته في فراغ، كأنها لم تعرفه قبلاً. عندما اغتيل الرئيسان رياض الصلح ورشيد كرامي، سَهُل ملء الفراغ بمَن يخلفهما في ساحة اتسعت لأكثر من زعيم سنّي في المدن السنّية الثلاث الكبرى. بعد اغتيال الحريري الاب، وفي اثر انتخابات 2005، لم يُعثر على مَن يخلفه سوى في البحث والمفاضلة ما بين اثنين كانا الاقرب اليه حتى ذلك الوقت، ورافقاه في حكوماته، هما الوزيران السابقان بهيج طبارة وفؤاد السنيورة. فاختير الثاني.
كمنت المشكلة حينذاك، ليس في تعذّر الوصول الى زعيم سنّي آخر فحسب، بل في المسار المكلف والخطر الذي اختار الحريري الاب السير على حباله: اقفال البيوت السياسية التقليدية وحجب وجودها الا من خلاله، وتدمير خصومه في الطائفة، وفي الوقت نفسه المجازفة في الوقوف عند تقاطع صراعات الانظمة. فإذا الثمن باهظ في كل حال وفي كل اتجاه.
بذلك مثّل قرار الحريري الابن ما هو ابعد من خيار شخصي مرتبط به، عندما اقرن اعتزاله بعائلته وتياره، ثم اتخذ اجراءات صارمة منع اولاً بموجبها ترشح اي في التيار، ثم ارغم المرشح على الاستقالة، ثم حظر استخدام اسم التيار وشعاراته في اي حملة انتخابية. فوق ذلك كله، لم يُفهم مما قاله في 24 كانون الثاني، يوم اعلان تعليق عمله السياسي، سوى دعوة الى مقاطعة الترشح والاقتراع، لم توحِ فحسب بأن المقصود بها اعضاء حزبه، بل الطائفة برمتها. ذلك ما حمل كرة الثلج على التدحرج على نحو غير متوقّع. رموز الحريرية السياسية انسحبوا تباعاً لاسيما منهم النواب، وابرزهم الذين احاطوا بالرئيس الراحل. ثم كرت سبحة الرؤساء السابقين للحكومة.
ربما اقسى معبّر عن خيار الاعتزال، عزوف النائبة بهية الحريري احد اقدم عشرة نواب لم تنقطع نيابتهم منذ عام 1992، وكانت سبقت شقيقها الى السلطة. ليس خافياً ايضاً انها كانت اول نائب حريري في ذلك الاستحقاق، قبل ان يدخل الرئيس الراحل الى السرايا. ثمرة اول اتفاق بينه والرئيس نبيه برّي.
بيد ان المفارقة المثيرة للعجب في علاقة الحريري الابن بقاعدته السنّية، انها على ابواب انتخابات 2022، سارعت الى التزام قراره على نحو بات من المتوقع معه ان يشهد الاستحقاق مقاطعة سنّية موصوفة، فيما تخلت القاعدة نفسها عن زعيمها في انتخابات 2018، في الدائرة الثانية في بيروت خصوصاً، باقبال ضعيف حرمه من الحصول على المقاعد السنّية الستة، وافقده خمسة مقاعد في الدائرة تلك، فاذا كتلته من 20 نائباً بعدما حاز في انتخابات 2005 على 35 نائباً، وفي انتخابات 2009 على 33 نائباً. في اسوأ رقم انتخابي يجنيه منذ عام 2005، فقد اكثر من ثلث النواب السنّة. حينذاك عُزي ما حدث الى انه اقتصاص منه بسبب التسوية التي ابرمها مع الرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل في الانتخابات الرئاسية عام 2016، وجهد في «تبليعها» لجمهوره بعد مسار طويل من العداء بين الطرفين، عاد بهما بعد خمس سنوات، عام 2021، الى النقطة الصفر ذاتها، وهي العداء المستحكم.
ما يحدث الآن، في انتخابات 2022، ينقل صورة معكوسة عن الاستحقاق المنصرم، وهو ملاقاة الشارع السنّي زعيمه في مقاطعته وتضامنه معه. كان ذلك كافياً كي يلتقط رؤساء الحكومات السابقون ونواب تيار المستقبل الاشارة السلبية هذه، ويعزفون تفادياً لأي تفسير يُعتد به على انه طعن في الظهر.
الواقع ان المعني الوحيد بمثل اتهام كهذا، من المفترض انه مصوَّب الى السنيورة. قبل اربعة ايام على عزوف الحريري، تخلى الرئيس تمام سلام عن نيابته وهو حليف لتيار المستقبل وليس في عداده. كذلك فعل الرئيس نجيب ميقاتي، غير المعني بتيار المستقبل، بيد انه استشم الحاجة الى التضامن مع رغبة الشارع السنّي في المقاطعة، مع ان لشارعه السنّي الطرابلسي خصوصية لا تطابق بالضرورة خصوصية الشارع السنّي البيروتي. وحده السنيورة دار من حوله الجدل والاجتهاد في احتمال ان يحلّل ما حرّمه الحريري، وهو العودة عن المقاطعة والذهاب الى الترشح. ربما لم يكن النائب السابق لصيدا معنياً باعلان عزوفه، او مطلوباً منه، مذ أُبعد عن نيابة مسقطه في انتخابات 2018، وفقد تالياً موقعه في كتلة المستقبل وإن رمزياً، وهو اقدم رفاق الحريري الاب، شاغلاً ذاته بذاته بعدما مالت المفاضلة الى النائبة بهية الحريري.
رغم التلويح بربط المقاطعة السنّية باحتمال تأجيل انتخابات 15 ايار بدعوى فقدانها الميثاقية، تلاشى كل تفكير في هذا المنحى بعدما تصاعدت وتيرته على اثر اتخاذ الحريري موقفه ذاك. ظهر اصرار وتمسّك بالاستحقاق بمَن حضر من السنّة، في مقابل حضور الشيعة والمسيحيين والدروز جميعاً، على نحو بدا كأنه تكرار لما حصل في انتخابات 1992.
واقع الامر، ان ما هو مرشح للحدوث في استحقاق 2022 لا يشبه ما رافق انتخابات 1992 في معظم الدلالات، في الاسباب ثم الحجج والمبررات وصولاً الى النتائج.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :