هل صحيح أن هنري كيسنجر قال لدونالد ترامب، في أحد لقاءاتهما التشاورية، ان الدولة في لبنان آيلة الى الزوال ان لم تكن قد زالت فعلاً، وما نشهده الآن ليس سوى... بقايا دولة ؟
وزير الخارجية السابق، وما زال ظله داخل الجدران، أو داخل الأدمغة، في وزارة الخارجية، عزا ذلك الى الاختلال الدراماتيكي، السياسي والديموغرافي وحتى العسكري، بين المسيحيين والمسلمين، ليتحول لبنان الى حلبة للصراع السني ـ الشيعي. وصف ذلك بأنه اشبه ما يكون بالصراع على من يمتلك الهواء، أو على من يمتلك مفاتيح السماء.
الكلام نقله رجل أعمال أميركي، من أصل لبناني، كان أبوه أحد أركان حزب مسيحي، موضحاً أنه من الحزب الجمهوري، وقريب من شخصيات فاعلة داخل مجلس الأمن القومي، وان كان لا يوافق على بعض السياسات الداخلية، والخارجية، التي يخطها دونالد ترامب.
قال ان كيسنجر ما زال عند اعتقاده بأن لبنان، كنموذج، تعثر ووقع في حرب أهلية طويلة ما لبثت أن انتهت بوثيقة انتزعت من الفريق المسيحي حتى «صلاحيات البقاء». وكان يمكن أن يكون الفائض الجغرافي المثالي لتسوية صراعات، وأزمات، المنطقة. تالياً، أن يبقى الشرق الأدنى أرض البدايات لا أرض النهايات...
ياسر عرفات أغوته الساحة اللبنانية كثيراً بعدما بات اللاعب الأقوى فيها، ان كان بجاذبية المال أو بالاثارة السياسية. هذا كان يمكن أن يتحقق لولا المعارضة الشديدة من الرئيس السوري حافظ الأسد، ولطالما أبدى تشكيكه بالسياسات الزئبقية لرئيس منظمة التحرير.
أيضاً ما حال دون ذلك الصرخة المسيحية في اتجاه الغرب بوجه عام، وفي اتجاه الفاتيكان بوجه خاص، ناهيك عن أن واشنطن لم تكن لتوافق على خطة مناحيم بيغن وآرييل شارون اجتثاث عرب الجليل، وسائر مناطق الخط الأخضر، ونقلهم الى لبنان كمدخل لنقل سكان الضفة الى الأردن، على أن تعاد غزة الى الادارة المصرية...
النقطة التي ينبغي التوقف عندها أن كيسنجر لا يعترف بوجود «شعب لبناني». اذ وصف رجال المنظومة السياسية التي تعاقبت على حكم لبنان بـ«أصحاب الأدمغة الهشة»، لاحظ أن أركان هذه المنظومة حاولوا دائماً «اللعب ضد الحقيقة»، بالحديث عن «الشعب اللبناني». الجنرال هنري غورو اكتشف، في وقت مبكر، أن التعايش بين أقليات معقدة تاريخياً قد يكون صعباً للغاية...
بعبارة أخرى لبنان مسرح من دون أبواب لكل أشكال الصراعات الدولية والاقليمية، دون أن تتكون صيغة فلسفية وعملانية للتفاعل الخلاق بين الطوائف، بالتالي انتاج كيان سياسي، واجتماعي، قابل للبقاء، ما أتاح للأزمات أن تتناسل على نحو يستحيل استيعاب أي منها.
حتى الساعة، ما زال هنري كيسنجر يرى أن الدولة اللبنانية من دون مستقبل. وصف الفساد بأنه يدخل في «التشكيل الجيولوجي» للسلطة كما للمجتمع. هذا ما يفترض اعادة النظر في الصيغة، وان كان الوضع الجغرافي للبنان بين سوريا واسرائيل يجعل من تغيير الخريطة أمراً شبه مستحيل. اذاً، ليكن التغيير من الداخل بتوطين الفلسطينيين اضافة الى توطين النازحين السوريين المعادين للنظام.
أين اللبنانيون في هذه الحال ؟ السؤال طرحه أحد مستشاري البيت الأبيض، وكان حاضراً أثناء اللقاء. لعله فوجئ بالجواب «لا لبنانيين في لبنان». هناك فقط جبل لبنان الذي يستحيل أن تقام فيه دولة مارونية ـ درزية. ليس فقط لأن السنّة باتوا يشكلون واقعاً ديموغرافياً مؤثراً، وليس فقط لأن المنطقة لا تمتلك الموارد الطبيعية، وحتى البشرية، الكافية، وانما أيضاً لأن الصراعات الدموية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب الأهلية، تركت جراحاً قد يكون تجاوزها مستحيلاً.
لا وجود لعبارة «ثورة لبنانية» في قاموس كيسنجر. الشارع ليس في يد الهامشيين والمهمشين بسبب استراتيجية التعليب التي انتهجتها الأوليغارشيا الحاكمة، وهي التي بين يديها أرواح الناس وأفواههم.
في كل الأحوال، كيسنجر ليس «نبي القفازات البيضاء». أكثر من مكان أقفلت في وجهه الأبواب.
نبيه البرجي
الديار
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :