نبيل هيثم
أسوأ ما أفرزته فورة مواقع التواصل الاجتماعي، وتجاوز بأشواط الوظيفة البديهية لتلك المنصات الاكترونية التي غزت حياتنا اليومية، والمتمثلة في التعبير الحر عن الرأي، هو أن الجميع، وعند كل تطوّر، صاروا إما صحافيين مخضرمين، أو خبراء في علم الأوبئة، أو محللين استراتيجيين، أو حتى فقيهاً في القانون الدولي وعلماء فلكيين، وجهابذة في الفيزياء والكيمياء، وعباقرة في عالم الطب الجراحي والنفسي، واساطير في علم الذرة.. ومبدعين في عالم الطبخ وتحضير الاطعمة والوجبات الغذائية وحتى مرشدين سياحيين ... الخ.
لكنّ الأخطر مما سبق هو أن هذه الظاهرة لم تقتصر على العامّة، ممن يسعون إلى رمز "اعجاب" هنا، أو "قلب" هناك، بل تعدّاه إلى غالبية رموز النخبة السياسية، ناهيك عن معشر الناشطين الالكترونيين و"المؤثرين" الافتراضيين، الذين فرضوا أنفسهم على الرأي العام، بشكل يعكس إلى حدّ كبير حالة العبث التي تحكم يومياتنا الغارقة في الكوارث والمشاكل العابرة للحدود.
في هذا السياق، وكما كان متوقعاً، جاءت ردود الفعل الافتراضية على الاتفاق-الاطار حول ترسيم الحدود البحرية والبرية مع الكيان الاسرائيلي، والتي، اي تلك الردود والتعليقات، أقلّ ما يقال فيها أنها أوغلت في هتك المنطق.
ضمن هذه العبثية العامة، راح البعض يصوّب على الاختراق الذي تحقق في ملف ترسيم الحدود، برغم أن الترسيم نفسه كان مطلباً وطنياً عاماً طوال السنوات التي تلت انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان، ومن ثمّ بعد الاكتشافات الغازية والنفطية التي يتوقع أن تكون واعدة في مياهنا البحرية، والتي لا يختلف اثنان في أنها قد تمثل فرصة خلاص، ولو مؤجلة، للاقتصاد اللبناني المتهاوي.
هو نفسه العبث الذي جعل البعض يفرح بإعلان شركة "توتال" قبل أشهر عن توقف العمل في البلوك رقم 4، لا لشيء، سوى أن هذا الأمر يكرّس ما يراه البعض فشلاً لفريق بعينه، رغم أن الانتكاسة - التي قد تكون مؤقتة بالنظر إلى أن الاستكشافات التي قامت بها الشركة الفرنسية أبقت على آمال كبيرة في ان الرقعة النفطية قبالة الشاطئ الشمالي لبيروت قد تكون واعدة في المستقبل – يفترض أن تكون قد طالت الجميع، بصرف النظر عن الانتماءات السياسية والطائفية والمذهبية.
السؤال الذي يُطرح في مقاربة سيل الانتقادات التي قوبل بها الاتفاق-الاطار، الذي اعلنه الرئيس نبيه بري، ، هو هل أن ردود الفعل ستكون على هذا الحال، لو أن الإعلان صدر عن شخص آخر غير الرئيس بري؟ بمعنىً آخر، هل أن الاختراق لو تحقق على ايدي حكومة محسوبة بشكل أو بآخر على فريق آخر، كان سيقابل بهذا القدر من الانتقادات الحادة التي طالت حتى الشكليات البديهية لاتفاقات مماثلة؟
بصرف النظر عن الاجابة على السؤال السابق المفترض، فإنّ المشكلة في الهجوم على الاتفاق تكمن في الصبيانية التي باتت وباءً متفشياً في الحياة السياسية اللبنانية، ولا يتصل بأي شكل من الأشكال بقضية الترسيم بحد ذاتها، التي يمكن افتراض أنها مطلب يتفق عليه الكل، في ما عدا قلة، تتسم مقاربتها السياسية لكل الملفات الداخلية والخارجية بما يشبه حالة مستعصية من الجمود الفكري!
ومن هنا فإنّ الرد على الانتقادات يبدو عبثياً حين يضطر المرء إلى شرح "الف باء" العلاقات الدولية أو تفسير بعض الشكليات، من قبيل استخدام الرئيس نبيه بري كلمة "اسرائيل" بدلاً من "الكيان الصهيوني"، أو حتى في التفسيرات الخيالية المستوحية نظريات المؤامرة، والتي نظر البعض من خلالها إلى الاتفاق-الإطار على أنه تميهد لتطبيع مع العدو الاسرائيلي.
مع ذلك، فإنّ توضيح بعض النقاط، برغم عبثية الموقف، قد يبدو ضرورياً طالما أن القدر حتّم علينا أن نعيش في "عصفورية" وطنية، بات الكثيرون فيها أشبه بشخصيات مهجوسة او مهلوسة وباحث عن "المؤامرة" بشكل مَرضي:
أولاً، فاتَ على المنتقدين أن الرئيس بري لم يستخدم كلمة "إسرائيل" إلا في قراءته لبنود الاتفاق-الإطار، أي انه استخدم الكلمة كما ورد في المصطلحات المعروفة في اتفاقيات مماثلة ابتداءً من اتفاق الهدنة عام 1949، وصولاً إلى تفاهم نيسان عام 1996.
ثانياً، يجهل المنتقدون التمييز بين "اتفاق-إطار"، أي اتفاق على التفاوض ضمن الآلية الثلاثية التي تجنّب لبنان المفاوضات الثنائية، وبين "الاتفاق النهائي" على الترسيم.
ثالثاً، يخلط المنتقدون أنفسهم بين "الاتفاق النهائي" على ترسيم الحدود وبين "اتفاق السلام"، فالأول، إن تحقق، وظيفته هي تثبيت حق لبنان في حدوده ليس أكثر، ولا يمكن أن يمتد، بأي شكل من الأشكال، إلى حدود الثاني، لكونه لا يُسقط حالة العداء التي ستظل قائمة بين لبنان وإسرائيل، بل يقتصر على ترتيبات معينة، وتحت إشراف الأمم المتحدة، على غرار تلك التي اعتمدت منذ توقيع اتفاق الهدنة.
رابعاً، إذا كانت قضية ترسيم الحدود هي مطلب لبناني جامع، فإنّ الأمر نفسه ينطبق في مسألة التطبيع العدو الإسرائيلي، الذي يبقى مرفوضاً من قبل الغالبية الساحقة من الشعب اللبناني، إذا ما استثنينا قلّة تزايد اليوم على موقف الرئيس نبيه بري، متناسية أن بري نفسه كان المساهم الاساس في اسقاط اتفاقية 17 أيار المشؤومة.
خامساً، وامتداداً لما سبق، فإنّ تركيز المنتقدين على تزامن الاتفاق-الاطار مع المناخ الاقليمي المتصل بالتطبيع، لا سيما بعد الاتفاقين الإسرائيلي-الإماراتي والإسرائيلي-البحريني، ومحاولة الربط بين الاختراق اللبناني والانجرار الإقليمي، يتجاوز مجرّد تبنٍّ عادي لنظرية المؤامرة ليصل إلى حالة هوس مَرَضي بهذه النظرية، لا سيما في تجاهل حقيقة أن الاتصالات التي مهّدت للاتفاق-الإطار سبقت كل ذلك المناخ التطبيعي بعشر سنوات.
بعيداً عن العبث الذي استوجب هذا السرد للبديهيات التي يجهلها، أو يتجاهلها، كثيرون، ثمة سؤال منطقي وحيد يبدو واجباً طرحه في حال اللامنطق السائدة، وهو: هل من مكاسب للبنان من ترسيم الحدود؟ وامتداداً لذلك هل من خسائر أو مخاطر؟
من الناحية الأولية، لا يمكن لاثنين عاقلين أن يختلفا في التأكيد على أن ترسيم الحدود، وفي ظل الظرف اللبناني الصعب، لا سيما على المستوى الاقتصادي، يمثل نقطة محورية يمكن الارتكاز عليها في ضمان تثبيت لبنان لحقوقه البحرية، وفي القلب منها ملف النفط والغاز، الذي بات منذ سنوات يمثل فرصة من بين فرص قليلة أخرى يمكن الركون إليها للخروج من المأزق الذي دفع لبنان إلى نادي الدول المفلسة.
يضاف إلى ما سبق، أن ترسيم الحدود قد يساهم بشكل أو بآخر في تثبيت هدوء يحتاجه لبنان اليوم على جبهة الجنوب، خصوصاً أن الجبهة الداخلية لا تبدو محصنة بما فيه الكفاية لمواجهة أيّ عدوان اسرائيلي محتمل، وهو بالتالي من شأنه أن يجعل معادلة الردع المثبتة من حرب تموز العام 2006 معززة بمظلة دولية، خصوصاً إذا ما اقترن الترسيم النهائي بضمانات دولية لوقف الانتهاكات الإسرائيلية اليومية برّاً وبحراً وجواً، وهو أمرٌ سيطالب به المفاوض اللبناني الذي لا يمكن لأحد التشكيك بعقيدته الوطنية، خصوصاً أن المفاوضات مع العدو الاسرائيلي سيتولاها الجيش اللبناني، الذي لا يمكن لأحد أن أيضاً أن يشكك بوطنيته، او بحرصه او بحمايته للسيادة الوطنية وعدم التفريط بها، وخصوصاً أن لبنان قد تمكن من فرض تلازم المسارين البري والبحري على النحو الذي لا يؤدي إلى انتزاع شبر واحد او كوب واحد من حقوقه الراسخة في البر والبحر.
بهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى نتائج مفاوضات ترسيم الحدود، إن نجحت، إلا في كونها مكسباً لبنانياً، لا ينطوي على أية شائبة، وهو ما يقود إلى بحث مجهري عن السلبيات المحتملة، التي لا تكمن في القرار السياسي اللبناني بقدر ما تكمن في المحاولات المتوقعة من قبل العدو الاسرائيلي في محاولته وضع الغام معيّنة في صيغة الاتفاق، سواء تعلق الأمر بالحدود البحرية أو البرية، وهو فخّ لا يتوقع، بحسب ما بات معروفاً، أن ينجر إليه لبنان، برغم كل البراغماتية التي يمكن أن يفرضها الواقع السياسي اللبناني المتزعزع.
يبقى اخيرا، ان بري وخلال اعلان الاتفاق، تلقى سؤالا مفخخا، فكان جوابه عليه: "مساقبة انو انا بري ما بحلى على الرصّ".. وبعده، توالت الانتقادات والتعليقات "المنظمة"، التي حينما بلغته، كان الجواب حاضرا في بيت الشعر القائل:
" انام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها و يختصم".
نسخ الرابط :