في الحادي عشر من ديسمبر من عام 2008، انكشفت فصول أكبر عملية احتيال مالي في التاريخ هزت الثقة في الأسواق المالية العالمية وهي في أوج أزمتها.
كان مهندس هذا المخطط الهرمي الضخم هو الأمريكي برنارد بيرني مادوف، الذي نجح في إدارة شبكة احتيالية متقنة لعقود، مستغلا ثقة آلاف المستثمرين من الأثرياء والمؤسسات بل وحتى أفراد الطبقة الوسطى. أدى انهيار هذا الصرح الوهمي إلى خسائر فادحة قُدرت بنحو 64.8 مليار دولار، وترتبت عليه تداعيات قانونية ومالية عميقة.
وُلد مادوف عام 1938 في حي كوينز بمدينة نيويورك، في عائلة يهودية متواضعة الحال. شاهد والده وهو يجاهد للخروج من الفقر عبر التداول في البورصة، ما زرع فيه اهتماما مبكرا بعالم المال. بعد حصوله على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة هوفسترا عام 1960، وأثناء عمله في وظائف متفرقة، جمع مادوف مبلغا صغيرا وأدرك أن طريق الثروة ليس بالمخاطرة بأمواله الخاصة، بل بإدارة أموال الآخرين. وهكذا أسس شركته الاستثمارية الأولى "مادوف إنفستمنت سيكيوريتيز" عام 1960، بمساعدة قرض من والد زوجته.
بمرور الوقت، بنى مادوف سمعة لامعة بفضل أفكار مبتكرة، مثل التحول المبكر نحو المعاملات الإلكترونية في سوق الأوراق المالية، ما ساهم في نمو شركته حتى نفذت 5 بالمئة من إجمالي المعاملات في بورصة نيويورك بحلول نهاية ثمانينيات القرن العشرين. كما عزز صورته العامة عبر تبرعات خيرية سخية ورعاية المؤسسات الثقافية والتعليمية.
في الخفاء، كان ينسج خيوط مخططه الهرمي، حيث كانت أرباح المستثمرين القدامى تُدفع من أموال المستثمرين الجدد، دون استثمار حقيقي يذكر. اختار استثمارات وهمية في قطاعات تبدو مستقرة كالعقارات والنفط، بينما أنفق الفائض على حياة البذخ من يخوت وطائرات ومجوهرات.
الأمر اللافت أن المخطط الاحتيالي استمر لقرابة أربعين عاما، دون أن يكتشفه أفراد عائلته المقربون الذين عملوا معه في الشركة، بما في ذلك ابناه أندرو ومارك.
كان مفتاح بقاء السر مغلقا، دفع الأرباح المنتظم للمستثمرين، بغض النظر عن تقلبات السوق، والإبقاء على العمليات غامضة دون منحهم إمكانية الوصول المباشر إلى حساباتهم.
على الرغم من تحذيرات متكررة، أبرزها من المحلل المالي هاري ماركوبولوس الذي شكك في إمكانية تحقيق تلك الأرباح بطريقة قانونية، لم تتحرك الجهات التنظيمية الأمريكية بشكل جدي.
جاءت النهاية مع الأزمة المالية العالمية عام 2008، حين اندفع المستثمرون لسحب أموالهم، ليكتشف مادوف أنه لم يعد هناك تدفق جديد للأموال يغطي بها طلبات السحب.
في لحظة مصيرية، اعترف لابنيّـه بحقيقة الاحتيال. لكن الابنين، خوفا من الاتهام بالمشاركة في الجريمة، أبلغا السلطات قبل أن يسلم نفسه، فقُبض عليه في 11 ديسمبر 2008. وأقر لاحقا بالذنب في إحدى عشرة تهمة منها الاحتيال في الأوراق المالية وغسيل الأموال، ليحكم عليه بالسجن 150 عاما.
لم تكن عواقب الفضيحة محصورة في مادوف نفسه، فقد امتدت لتصيب شركته "فيرفيلد سينتري" التي خسرت 7.3 مليار دولار، واضطر بنك "جي بي مورغان" الذي أشرف على أعماله لعقود إلى دفع غرامة قدرها 2.6 مليار دولار لتسوية دعاوى تتهمه بالإهمال.
صودرت أملاك مادوف الفاخرة لتعويض ضحايا الاحتيال جزئيا، واستمرت عملية استرداد الأموال لسنوات. هكذا انطوت صفحة من أكثر حلقات الاحتيال المالي جرأة وتعقيدا، تاركة وراءها دروسا قاسية عن الطمع والثقة العمياء، وأهمية الرقابة الصارمة في الحفاظ على نزاهة الأسواق المالية.
المصدر: RT
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :