
الأخوات ماريا تيريزا، وباتريا، ومينيرفا، وديدي. لم يكن مجرد فتيات جميلات في مجتمع محافظ، بل كنّ شهادات حية على قوة الإرادة في مواجهة القهر. ثلاث منهن تحولن إلى رمز عالمي للكرامة والحرية، بينما اختارت الرابعة طريقا مختلفا لحفظ هذه الذكرى من الضياع.
في جمهورية الدومينيكان التي كانت ترزح تحت نير حكم رافائيل تروخيو الدكتاتوري الذي أمسك بزمام السلطة بقبضة من حديد بين عامي 1930 - 1961، لم يكن بمقدور صاحبات هذه العقول المتعلمة أن تكتفين بدور المتفرج أمام الظلم والاستبداد.
في الخفاء، وباسم سري يشبه نبض الحياة نفسه، عرفت الأخوات الثلاث، مينيرفا وماريا تيريزا وباتريا، باسم "لاس ماريبوساس"، أي الفراشات، كائنات رقيقة تبدو هشة إلا أن حركة أجنحتها الرشيقة تبعث في النفوس الأمل.
كانت مينيرفا، الأخت الكبرى بين هذه الفراشات، الشرارة الأولى التي أوقدت المشعل في دروب المقاومة. بجسارة نادرة تحدّت تروخيو علانية في مواجهة كان ثمنها باهظاً دفعته العائلة بأكملها حين زُجّ بالأب في غياهب السجن. لم تثنِ هذه التبعات مينيرفا عن موقفها، بل زادتها إصرارً، فسارت على دربها ماريا تيريزا، الأخت الأصغر، التي انغمست في العمل السري بحماسة الشباب وتصميمه.
أما باتريا، التي كانت في بدايتها متدينة بعيدة عن صخب السياسة، فقد انقلبت حياتها رأسا على عقب حين شهدت بأم عينيها مذبحة أمر بها الطاغية، فتحولت من امرأة تبحث عن السلام الداخلي إلى منظمة رئيسة في حركة المقاومة، تحمل في قلبها جرح الإيمان الذي انكسر على صخرة الوحشية.
هكذا، وجدت الأخوات الثلاث أنفسهن في قلب "حركة الرابع عشر من يونيو"، تلك المجموعة السرية التي اتخذت من ذكرى غزو فاشل ضد النظام في عام 1959 اسما لها وشعلة للعمل.
بقيت ديدي، الأخت الرابعة، بعيدة نسبيا عن دائرة النشاط السياسي المباشر، وهو ما أنقذ حياتها في النهاية، لتكرسها في رعاية ذاكرة أخواتها وحفظ تراثهن من الاندثار.
تصاعدت وتيرة الأحداث بشكل مأساوي بحلول نوفمبر 1960، حين كان أزواج الأخوات الثلاث، مانولو ولياندرو وبيدرو، رهائن خلف قضبان سجن لا فيكتوريا الواقع خارج العاصمة سانتو دومينغو.
في الخامس والعشرين من ذلك الشهر، قررت باتريا ومينيرفا وماريا تيريزا، برفقة سائقهن روفينو دي لا كروز، زيارة أزواجهن في السجن. انطلقوا من سالسيدو في رحلة مصيرية، بينما كانت عيون النظام تراقب تحركاتهم بدقة لا تترك شيئا للصدف.
يتحدث المؤرخون عن مؤشرات كثيرة تثبت أن تلك الزيارة كانت فخا نُصب لهن، خاصة بعد الإفراج عنهن قبل أيام من اعتقال قصير، حيث رأى تروخيو في استمرار نشاطهن وشعبيتهن المتزايدة تحديا لا يُطاق. قبيل أيام من الرحلة، تحدث الدكتاتور في حفلة عن "مشكلتين": الكنيسة والأخوات ميرابال، معتبرا أن "حل" مشكلة الأخوات بات قريبا.
بعد أن أنهين زيارتهن للأزواج في سجن لا فيكتوريا، حيث ساد توتر خانق، حتى أن الأزواج أعربوا عن مخاوف عميقة على سلامة زوجاتهم، انطلقت المجموعة في رحلة العودة.
على طريق جبلي متعرج بين سانتياغو وبويرتو بلاتا، بالقرب من منحدر يعرف باسم "لا كومبر"، اعترضت سيارتهم مجموعة من عملاء تروخيو، ينتمون إلى جهاز المخابرات العسكرية. تم فصل الأخوات عن سائقهن، وأُجبرن على ركوب سيارة أخرى، نُقلن إلى حقل قريب من حقول قصب السكر. هناك، تعرضت الأخوات الثلاث للضرب المبرح بالهراوات ثم الخنق حتى الموت.
للتغطية على الجريمة الشنعاء، أعاد الجلادون جثث الأخوات والسائق روفينو إلى سيارتهم الجيب، ثم دفعوا بها من فوق الطريق الجبلي الوعر، محاولين تلفيق حادث سيارة مأساوي. لم ينجُ روفينو دي لا كروز، الشاهد الوحيد على الجريمة، الذي قُتل هو الآخر لإسكات صوت الحقيقة إلى الأبد.
أذاع النظام بيانا رسميا يعلن وفاة الأربعة في حادث سير، لكن قلّة من الناس صدقت هذه الرواية، خاصة أن الجثث، حين استُعيدت، كانت تحمل علامات عنف شديد لا يمكن أن تنتج عن حادث مروري، كما أن مقتل السائق الشاب، زاد من الشكوك وأذكى نار الغضب.
كانت الصدمة عميقة في نفوس الشعب الدومينيكي. مقتل ثلاث نساء غير مسلحات، محترمات ومتعلمات، مع سائقهن البريء، هزّ الضمير الوطني بطريقة لم تفعلها كل جرائم تروخيو السابقة. مزقت هذه الجريمة القناع الأخير عن وجه النظام، محوّلة الأخوات ميرابال إلى شهيدات على مذبح الحرية. أصبح مصيرهن رمزا للظلم، وكان الغضب الشعبي الذي أعقب مقتلهن حافزا رئيسا أدى إلى اغتيال تروخيو بعد ستة أشهر فقط، في الثلاثين من مايو 1961.
لم تمت الفراشات الثلاث في ذلك اليوم المشؤوم ولم يذهب دمهن هباء. ساهمن في تعبيد حياة شعبهن نحو الحرية ودفعن الثمن بأرواحهن. تكريما لذكراهن، خلدتهن الأمم المتحدة بإعلان الخامس والعشرين من نوفمبر يوما دوليا للقضاء على العنف ضد المرأة، ليصبح نضالهن تراثا إنسانياً عالميا.
هن أبطال في هذا البلد اليوم، وأيقونات خالدة للمقاومة النسائية في أمريكا اللاتينية والعالم. تحكي كتب التاريخ والآدب قصتهن، وأشهرها رواية "في زمن الفراشات"، شاهدة على أن أرواح لا تموت.