قرّر وزير الطاقة جو الصدّي أن يتقدّم في استراتيجية الطاقة في لبنان من الـ«شيء» إلى الـ«لا شيء». هكذا وبلا أي مقدمات أحال الصدّي مشروعاً إلى المجلس الأعلى للخصخصة يتعلق بإنشاء مشروع محطة تغويز وفق قواعد «الشراكة مع القطاع الخاص». بالنسبة إليه، هي مجرّد محطّة تغويز. لا داعي لإثارة أي أسئلة أو لتقديم أي إجابات. هي مجرّد مشروع يتم تنفيذه بصمت. وبهذه الخفّة جاءت خطوتها بشكل منسلخ عن أي اتساق طبيعي لما يمكن تسميته استراتيجية الطاقة في لبنان، فلم يسبقها أي عرض في مجلس الوزراء لأي خطة أو رؤية سيُبنى عليها هذا «المشروع» الذي سيقتصر على إنشاء محطّة لتحويل الغاز المستورد بحالته السائلة، إلى الحالة الغازية التي كان عليها أصلاً، من أجل استخدامه كوقود لإنتاج الكهرباء في المعامل.
في السنوات التي أعقبت تولّي وزراء التيار الوطني الحرّ وزارة الطاقة، أي منذ النصف الثاني من 2009 خلال تولّي جبران باسيل هذه الوزارة لغاية النصف الأول من 2025 حين انتهت ولاية الوزير وليد فياض، كان يمكن توجيه الاتهامات بشأن العيوب والشوائب في استراتيجية الطاقة المتّبعة والتي أُخضعت لعدد من التعديلات، إلا أنها كانت استراتيجية قابلة للنقاش وتقدّم خطّة واضحة عن أهداف لبنان منها اجتماعياً واقتصادياً ومالياً.
كانت كلفة الاستثمار مقابل المردود واضحة، وكان أساسها اعتماد خيارات تقوم على الاستدامة في التشغيل وعلى مقاربة تنطلق من تلبية الطلب الاستهلاكي وتوسيع القدرات الإنتاجية وصولاً إلى الاستثمار في شبكات النقل والتوزيع ثم خصخصة الجباية والصيانة لمقدّمي الخدمات، فضلاً عن تأمين الوقود لتشغيل المعامل والانتقال من المرحلة المؤقتة إلى المرحلة النهائية... طبعاً، غالبية هذه الخطّة لم تتحقق، وهي خضعت أصلاً للكثير من النقاش والنقد، إلا أن ذلك لم يمنع مجلس الوزراء من إقرارها باعتبارها استراتيجية للقطاع، وهي حتى اليوم تعدّ المصدر الأساسي لكل الخطوات والمشاريع التي تطرح أو تنفذ في القطاع.
هذه المقدمة ضرورية للإشارة إلى أن ما يقوم به الوزير جو الصدّي محبط جداً. فهو لا يرى أن هناك ضرورة لإشراك مجلس الوزراء بخطوة كهذه، أو لا يجب أن يضطر إلى الإفصاح عن الغاية الفعلية من اللجوء إلى هذا النوع من الخصخصة. فالمسألة قد تكون مجرّد عملية نهب محليّة وفق قواعد اعتاد لبنان عليها سياسياً وطائفياً، ولكن انخراط مؤسسة التمويل الدولية التي تعدّ الذراع التنفيذية لمجموعة البنك الدولي، ومن خلال استعمال أداة خصخصة تسمى «الشراكة مع القطاع الخاص»، يشي بأنها عمليات نهب بإشراف دولي.
السؤال المحوري هو لماذا لم يقدّم الصدّي رؤيته لقطاع الطاقة، بل قرّر أن ينتقل فجأة إلى تنفيذ محطّة تغويز عبر المجلس الأعلى للخصخصة باعتبارها خطوة بديهية؟ لماذا لم يطّلع مجلس الوزراء على دور هذه المحطة في تأمين استدامة الإنتاج والتشغيل لمعامل الكهرباء، علماً بأن النقاش في هذه المسألة مهم جداً، ربطاً بما حصل في السنوات الـ15 الأخيرة. فما كان مطروحاً هو إنشاء محطّة تغويز مقابل معمل دير عمار الذي كان يرتبط بخطّ الغاز العربي، على أن ينشأ معمل دير عمار 2 الذي يعمل أيضاً بواسطة الغاز وعلى أن يتم إنشاء خطّ غاز أو أنبوب غاز داخلي يربط الجنوب بالشمال لتوزيع الغاز المستورد بشكله المُسال والمعاد تغويزه في محطة دير عمار إلى كل لبنان بما فيه معامل الكهرباء.
اصطدمت كفاءة عمل القطاع بموجبات سياسية محلية، إذ تبيّن أن توزيع المعامل وفق القواعد الطائفية يفترض أيضاً توزيع محطات التغويز وفق القاعدة نفسها، رفضت حركة أمل أن يكون المعمل في دير عمار واقترحت أن يكون في الزهراني، ثم انخرط باسيل في اللعبة عندما صارت محطات التغويز قابلة لتكون أصغر بطاقتها الاستيعابية، فجرى تحديث الخطة الأساسية لإنشاء ثلاث محطات تغويز، واحدة للسنّة في دير عمار، وواحدة للشيعة في الزهراني وواحدة للمسيحيين في سلعاتا مقابل البترون... ثم جاء وليد فياض بخطّته التي تقضي بإعادة تشغيل خط الغاز العربي واستيراد الغاز من مصر عبر الأردن وسوريا، ولكن الولايات المتحدة الأميركية التي شجعته على هذا المشروع ماطلت نحو سنتين لإظهار رفضها المطلق له، ولكنه في المقابل قدّم تحديثاً آخر للخطة الأساسية يقضي بأن يكون معمل دير عمار المربوط بخطّ الغاز العربي مقابل معمل الزهراني الذي يفترض أن يرتبط بمحطة تغويز... ثم أتى الصدّي من خارج أي سياق ليقول إن مؤسسة التمويل الدولية التي تكون الذراع التنفيذية لمجموعة البنك الدولي ستنفذ محطّة تغويز مقابل دير عمار.
اللافت في هذه الحكومة التي يشكّل الصدّي جزءاً منها ممثلاً للقوات اللبنانية التي كانت تناقض كل خطوة يقوم بها التيار الوطني الحرّ في قطاع الطاقة، أنها لم تقدّم أي خطّة لأي قطاع، لا في الكهرباء، ولا في الاتصالات، ولا في المياه، ولا في الصناعة، ولا في الاقتصاد، ولا في الأمن أو القضاء... كل ما تقوم به هذه الحكومة مبني على استكمال جهود القبض على مفاصل ما تبقى لدى هذه السلطة بعد الانهيار المصرفي والنقدي في 2019.
فما يحصل في قطاع الطاقة ليس الأول، بل سبقه ما حصل في قطاع الاتصالات حين تقرَّر منح شركة «ستارلينك» امتياز استعمال التردّد الطيفي بمرسوم في مجلس الوزراء بينما كان هذا الامتياز يتطلب صدور قانون، فضلاً عن أن امتيازاً كهذا أتى قاصراً عن فهم التطوّر في القطاع ومنح أفضلية لهذه الشركة في السيطرة على سوق الاتصالات بشكل شبه مجاني. والآن، سيتم إنشاء محطّة تغويز وفق دراسة تجريها الجهة التي ستموّل إنشاء المحطّة (مؤسسة التمويل الدولية).
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :