في ليلةٍ هادئة على كوكب الأرض، لم يكن علماء الفلك ينظرون إلى السماء بحثًا عن نجمٍ جديد، بل كانوا يطاردون ظلاً في قلب الكون، جرمًا مظلمًا لا يُرى ولا يضيء، ولا يكشف عن نفسه إلا من خلال أثره الخفيّ على الضوء.
ومن ألمانيا إلى الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، اجتمع فريق من العلماء حول شبكةٍ هائلة من التلسكوبات الراديوية تمتدّ من تلسكوب "غرين بانك" في ولاية فرجينيا الغربية إلى الشبكة الأوروبية للتداخل القاعدي بعيد المدى، التي تصل تلسكوباتها بين قاراتٍ عدة، ليحوّلوا الأرض نفسها إلى تلسكوبٍ عملاق يبحث عن إشارة واحدة: انحناءة ضوءٍ صغيرة وسط بحرٍ من النجوم.
باستخدام هذه الشبكة العالمية من التلسكوبات، بما فيها "غرين بانك"، اكتشف العلماء جسماً غامضًا في أعماق الكون، في إنجازٍ فلكي نادر.
لا تصدر "الأجرام المظلمة" أي ضوءٍ أو إشعاع، لكن يُكشف عن وجودها من خلال تأثير جاذبيتها على الضوء القادم من الأجسام البعيدة، في ظاهرة تُعرف بـ"عدسة الجاذبية"، حيث تُشوّه الجاذبية مسار الضوء المارّ بالقرب من الجرم غير المرئي، فتحدث انبعاجات في الصور تشبه الخدوش الصغيرة في مرآة بيت المرايا.
العلماء لا يعرفون بعدُ على وجه الدقة ماهية هذه الأجرام، فهي ليست نجوماً ولا مجرّاتٍ كما نعرفها، بل تقع في منطقةٍ غامضة بين الاثنين. ويرى بعض الباحثين أنها تكتلات من "المادة المظلمة" لا تحتوي على نجوم أو غازات، لذلك لا تُصدر أي ضوء.
بينما يعتقد فريقٌ آخر أنها مجرّات قزمة خاملة فقدت غازها ونجومها النشطة، وقد تكون نواتها مكوّنة من ثقوبٍ سوداء أو تجمعاتٍ نجمية منطفئة.
وأثناء الرصد، لاحظ العلماء انبعاجًا دقيقًا في صورةٍ ضوئية بعيدة، وكأن مرآة الكون أصابها خدشٌ غير متوقّع. لم يكن ذلك خطأً في القياس، بل بصمة جرمٍ مظلم مجهول هو الأصغر من نوعه الذي يُكتشف حتى الآن، إذ تبلغ كتلته نحو مليون ضعف كتلة الشمس ويقع على مسافة تقارب 10 مليارات سنة ضوئية من الأرض.
وتمّ الإعلان عن هذا الاكتشاف في دورية "نيتشر أسترونومي"، واعتبره العلماء إنجازًا مذهلًا يقربهم خطوةً جديدة نحو فهم طبيعة المادة المظلمة.
وقال البروفيسور كريس فاسنات من جامعة كاليفورنيا في ديفيس: "تمكّننا من رصد جرمٍ بهذه الكتلة الصغيرة وعلى هذه المسافة الهائلة يُعدّ إنجازًا مدهشًا. فكل جرمٍ من هذا النوع يقرّبنا من فهم طبيعة المادة المظلمة التي تشكل ربع الكون".
وأضاف: "التحليل أظهر أن هذا الجرم الغامض يمتلك كتلة تقارب مليون ضعف كتلة الشمس، لكنه لا يشبه أي جسم معروف، وقد يكون كتلة من المادة المظلمة أو مجرّة قزمة ميتة خمدت نجومها منذ زمن بعيد".
يُعدّ هذا الجرم أقل الأجرام كتلةً التي تم اكتشافها بتقنية "عدسة الجاذبية"، مما يفتح الباب أمام اكتشاف المزيد من الأجسام المشابهة في المستقبل.
ويقول الباحث ديفون باول من معهد "ماكس بلانك" للفيزياء الفلكية في ألمانيا: "توقّعنا العثور على جرمٍ مظلم واحد على الأقل، ونتائجنا تتوافق مع نظرية المادة المظلمة الباردة التي تفسّر كيفية تشكّل المجرات، والسؤال الآن: هل سنجد المزيد؟ وهل تتطابق أعدادها مع النماذج النظرية؟".
وتُعدّ "المادة المظلمة الباردة" من أبرز النظريات التي تشرح كيف تشكّل الكون، إذ تفترض أن الجسيمات غير المرئية الكثيفة كانت تتحرك ببطء شديد مقارنة بسرعة الضوء، ما سمح بجذب الغازات والغبار الكوني لتشكيل المجرات والعناقيد المجرّية.
ويشير باول إلى أن نتائجهم "تعزّز الاعتقاد بأن المادة المظلمة بالفعل هي اللبنة الخفية التي بنت المجرّات منذ فجر الكون"
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :