كتبت الدكتورة رشا ابو حيدر
“في كل نقاش وحوار، يكمن الجمال في قدرة الإنسان على الإصغاء قبل الكلام، وفي اختيار الحقيقة بعين الحكمة.” بهذه الروح دخل البرلمان اللبناني في نقاش غير مسبوق حول مقترح يقضي بجعل عقد الزواج محدد المدة بخمس سنوات قابلة للتجديد. وقد أثار هذا المقترح تفاعلًا واسعًا بين مؤيد يرى فيه تحديثًا جريئًا لمنظومة الزواج التقليدية، ومعارض يعتبره مسًّا بجوهر القيم الاجتماعية والدينية التي يقوم عليها النظام اللبناني المتعدد الطوائف والمذاهب.
يأتي هذا المقترح ضمن مشروع أوسع للزواج المدني الموحّد، طرحه النائب إلياس جرادي، بهدف إيجاد صيغة قانونية جديدة تنظّم العلاقات الزوجية خارج القيد الطائفي، وتتيح للأفراد اختيار عقد مدني يخضع لإرادتهم الحرة دون الخضوع للأحكام المذهبية المتنوعة. في صيغته الأولية، ينص المشروع على أن عقد الزواج يُبرم لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد التلقائي أو الانفصال عند انتهاء المدة، ما يعني عمليًا أن الاستمرار في العلاقة يصبح خيارًا متجدّدًا وليس التزامًا أبديًا.
بالنسبة للمؤيدين، فإن هذه الصيغة تحاكي الواقع الاجتماعي الجديد الذي يشهد تغيّرًا في مفهوم الارتباط الأسري، في ظل ارتفاع نسب الطلاق، وتراجع الإيمان بالاستمرارية المطلقة للزواج. وهم يعتبرون أن هذا النموذج يمنح الشريكين حرية أكبر في تقرير مصير العلاقة على ضوء تجربتهما الواقعية، بدل أن يكون الزواج عقدًا مغلقًا يفرض الاستمرار رغم الخلافات العميقة. كما يرون أن التجديد كل خمس سنوات يمكن أن يشكّل نوعًا من “المراجعة الذاتية” التي تعزز الحوار والالتزام المتبادل.
أما المعارضون، فيعتبرون أن المقترح يُفرغ الزواج من معناه الإنساني والروحي، ويحوّله إلى علاقة تعاقدية مؤقتة أشبه بعقود الإيجار أو العمل. وهم يحذّرون من أن تقنين هذا المفهوم سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار الأسري وتفكك النسيج الاجتماعي، خصوصًا في بلد لا تزال العائلة فيه تشكّل الركيزة الأساسية للهوية الجماعية. كما يرون أن الزواج المحدّد المدة يتعارض مع جوهر النصوص الدينية التي تعتبر الزواج رباطًا دائمًا يقوم على النية بالاستمرار وليس على التجربة الزمنية.
من الناحية القانونية، يُثير المقترح إشكاليات دستورية عميقة. فلبنان لا يزال بلا قانون مدني موحد للأحوال الشخصية، بل يخضع لتعددية مذهبية تمنح الطوائف صلاحيات حصرية في تنظيم الزواج والطلاق. وبالتالي، فإن أي تشريع يحدّد مدة عقد الزواج يجب أن يستند إلى إطار مدني شامل يساوي بين جميع المواطنين أمام القانون، وإلا سيكون عرضة للطعن بعدم الدستورية بسبب التمييز بين من يختارون النظام المدني ومن يلتزمون بالأحوال الشخصية الدينية. كما يطرح المقترح سؤالًا جوهريًا حول مدى إمكانية تطبيقه في ظل غياب بنية قانونية قادرة على إدارة العقود الزمنية للزواج، من حيث آثار الانفصال، حقوق الأطفال، والميراث، وغيرها من المسائل الحساسة.
في الواقع اللبناني، لا يزال الزواج المدني نفسه موضع انقسام. فالمطالبة به تُواجَه دوماً بمعارضة المؤسسات الدينية التي ترى فيه تهديدًا لسلطتها القانونية والاجتماعية. لذا، يبدو إدخال مفهوم الزواج المحدّد المدة خطوة أكثر جرأة مما يحتمله الواقع الراهن.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أنّ الفكرة تحمل في طيّاتها بعدًا إصلاحيًا، فهي تطرح تساؤلًا عميقًا حول طبيعة الالتزام الزوجي في زمن تغيّرت فيه بنية العلاقات الاجتماعية، وازدادت فيه حالات الطلاق والعنف الأسري، وتبدّلت النظرة إلى دور المرأة والرجل في الأسرة. إنّ تحديد مدّة للزواج قد لا يكون هو الحل، لكنه يعكس أزمة حقيقية في القوانين التقليدية التي ما عادت قادرة على مواكبة المجتمع المعاصر. والمفارقة أنّ من يرفضون الاقتراح بدعوى قدسية الزواج، يغفلون أنّ آلاف الأزواج يعيشون تحت سقفٍ واحدٍ في علاقاتٍ خالية من الودّ أو المساواة، لأن الطلاق في نظامهم الطائفي معقّد أو غير متاح.
“قد يبدو تحديد مدة الزواج مسألة تقنية، لكن في جوهرها يكمن السؤال الأعمق عن الاحترام والحوار.” يبقى السؤال: هل يمكن للدولة أن تنظّم عقد الزواج كأي عقدٍ آخر، يخضع للتجديد أو الانتهاء؟ في الفقه الدستوري، الزواج ليس مجرد عقد بين شخصين، بل هو مؤسسة اجتماعية لها آثار قانونية واقتصادية وإنسانية تتجاوز الإرادة الفردية. ومن ثمّ، فإنّ حصره في إطار زمني يجعل منه علاقة أقرب إلى شراكة مدنية منه إلى أسرة بالمعنى التقليدي.
البديل ربما يكمن في تحديث القانون المدني من دون المسّ بجوهر الزواج، عبر إدخال آليات مراجعة إلزامية بعد سنوات محدّدة، تُتيح للأزواج إعادة التقييم أو اللجوء إلى وساطة أسرية وقانونية سريعة، مع ضمان حقوق الأطفال والنفقة والسكن.
سواء أُقرّ المقترح أم سقط في أدراج البرلمان، فقد نجح في ما لم تنجح به مشاريع أخرى: إعادة فتح النقاش حول الزواج المدني، والحقوق الفردية، وتوازن القيم بين الحرية والاستقرار. في النهاية، ليست القضية مدّة العقد بقدر ما هي سؤال عن شكل الأسرة اللبنانية في المستقبل: هل تبقى أسيرة النصوص الطائفية القديمة، أم تنفتح على مفاهيم مدنية حديثة تحمي الإنسان قبل المؤسسة؟
“وفي النهاية، يكمن الجمال في قدرة الإنسان على اختيار الحقيقة بعين الحكمة، والارتقاء بالحوار فوق الخلافات.”
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :