حاول رئيس الجمهورية جوزاف عون “رمي حجرة” في مستنقع البرودة الاميركية تجاه لبنان، عارضا التفاوض على حل النقاط الخلافية مع كيان العدو الاسرائيلي، على غرار التفاوض السابق الذي أفضى الى ترسيم الحدود البحرية. واذا كان الجواب الاميركي لم يصل بعد الى بيروت، بانتظار تسلم السفير الجديد ميشال عيسى مهامه قريبا، فان المفارقة الايجابية ان دعوة الرئيس لم تؤد الى اثارة “عاصفة” سياسية داخلية، كما كان يتوقع كثيرون، والاسباب عديدة منها ما يرتبط بالثقة بنوايا عون الذي لم يفاتح احد بمبادرته، كما ترتبط بتعقيدات المشهد الخارجي، التي تجعل من الطرح اقرب الى “رياضة فكرية” منه الى واقع بفعل غياب الاندفاعة الاميركية، وعدم وجود ارضية اقليمية صالحة تسمح بالانطلاق نحو تسوية، يضاف الى ذلك عدم وجود “شريك” مستعد للتعامل مع دعوة الحوار بجدية، بما يفضي الى سلام لا يبدو في متناول اليد.
وفي هذا السياق، تؤكد مصادر سياسية مطلعة عدم وجود صحة للمعلومات التي تتحدث عن حركة اتصالات تجري بين الرئاسات الثلاث، لعقد لقاء يجمع الرؤساء جوزاف عون ونبيه بري ونواف سلام، يُخصص للبحث في ملف التفاوض الذي اثاره رئيس الجمهورية، فهذا الملف ليس على “الطاولة” راهنا، ولا يمكن تخصيص اجتماع مستقل للبحث به، طالما ان الأمور لا تزال مجرد فكرة ، وعرض من طرف واحد للتفاوض لإرساء السلام والاستقرار. لذلك عندما يكون ثمة جواب من الطرف الآخر حيال المبادرة الرئاسية، فان ذلك يستوجب التنسيق لتقوية الموقف اللبناني.
وراهنا، يدرك الرئيس عون ان كلا من بري وسلام، وخصوصا رئيس المجلس النيابي، لا يعارضان في الشكل ما تقدم به في سياق رغبته عدم بقاء لبنان خارج المسار القائم في المنطقة، اذا كان مسارا لتسوية الأزمات، ولا احد يعارض ان تكون الساحة اللبنانية ضمنه، لوقف الحرب الاسرائيلية وعمليات القتل اليومية، والتهجير المستمر. اما المضمون فبعد “بكير”!
ووفق تلك الاوساط، اذا كان الدستور قد منح الرئيس عون الحق في التفاوض لابرام المعاهدات الدولية، فانه على الرغم من ذلك، حريص ان يشرك الآخرين في بلورة صيغة موحدة في ملف على هذا المستوى من الاهمية، يتبعها “خريطة طريق” واضحة لصياغة مضمون صلب لحماية الحقوق اللبنانية وحفظ السيادة، ولهذا يمكن الحديث حتى الآن على توافق في الشكل، بانتظار بحث المضمون بعمق عندما يحين وقت ذلك، وعندما يحصل لقاء “ثلاثي” في بعبدا تحت عنوان البحث في استراتيجية التفاوض، نكون عندها امام مؤشرات جديدة تقتضي ذلك، وحتى يوم امس لم يكن قد طرأ اي جديد، وليس مؤكدا بعد حصول تطورات دراماتيكية في الساعات القليلة المقبلة، الا اذا حصلت “معجزة”!
وفي هذا الاطار، تلفت مصادر ديبلوماسية الى المشكلة ليست في رفض “اسرائيل” لمبدأ التفاوض فقط ، وانما في غياب الزخم لدى الادارة الاميركية لتحقيق سلام جدي في المنطقة، وكان من الواضح ان الرئيس الاميركي دونالد ترامب، لم ينتهز الاندفاعة الديبلوماسية التي اوقفت الحرب في غزة، من أجل الحصول على التنازلات الإسرائيلية التي قد تضمن سلاما حقيقيا في المنطقة, وقد عبرت باربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط في إدارة بايدن، عن ذلك في مقابلة مع شبكة “سي إن إن” حين قالت ان وقف الحرب كان أسهل خطوة، ولقد بالغوا ربما عن عمد في الترويج للتطبيع بين “إسرائيل” والعرب، وقللوا من شأن مسار الدولة الفلسطينية”.
اما أكبر المخاوف الآن فهو أنه مع تلاشي ضغوط الحرب الدائرة والكارثة الإنسانية اللتين حركتا العالم لمدة عامين، سيتلاشى الزخم الاميركي، خصوصا أن فريق ترامب لديه الكثير من المهام الأخرى غير غزة والشرق الأوسط، حيث إن ويتكوف، الذي يعمل بطاقم محدود، يتفاوض على مجموعة من النزاعات، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا، فيما قال صهر الرئيس جارد كوشنر إنه يخطط للعودة إلى شركته للاستثمار الخاص في ميامي. فيما لا يبدو ماركو روبيو مطلعا على الملف اللبناني، لانه ملف خارج مهام الخارجية الاميركية، ويرتبط مباشرة بالبيت الابيض.
وفي الاقليم، لا تبدو الصورة اقل حذرا تجاه النوايا الاميركية، ولبنان الرسمي قرأ جيدا الموقف السعودي غير المرتاح لخطة ترامب في غزة، وقد تجسد ذلك بغياب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن قمة “شرم الشيخ”، لانها لا تتضمن اي بنود واضحة في شأن حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية، ولا تزال السعودية ترفض توقيع اتفاقات “ابراهام مع اسرائيل”، قبل اعترافها بحل الدولتين والبدء بمسار جدي نحو اقامة دولة فلسطينية. كما ان الرياض تطالب ترامب مزيدا من الوضوح في رؤيته للسلام في المنطقة، بعدما تبين ان في يده “لجم” تطرف حكومة نتانياهو، لكنه لا يفعل المزيد، وهو سمح بضرب قطر، في اعتداء هو الثاني من نوعه على دول الخليج، دون ان يحرك ساكنا، بعد تعرض “ارامكو” للاستهداف خلال الحرب مع الحوثيين، ما اشعل “الضوء الاحمر” في المملكة، التي لم تعد واثقة من جدية الاستراتيجية الاميركية حيال التسوية العادلة في المنطقة، بما يشمل الساحة اللبنانية.
والآن، وفي ظل الشلل في واشنطن بسبب اقفال الادارات الفدرالية بعد الخلاف على التمويل، فان الموفدين الأميركيين توم براك ومورغان اورتاغوس، ليس قريبين من اطلاق جولة مكوكية جديدة بين لبنان “واسرائيل”، وحتى لو حضرا، فمن غير المتوقع ان يعودا قريبا باجوبة ايجابية من حكومة اليمين المتطرفة، التي لا ترغب بالتفاوض الا بالمزيد من القوة، وفرض الشروط. ولذلك فان احتمال قيام الأميركيين بالضغط على “اسرائيل” لتنفيذ اتفاق وقف النار، والانتقال الى مرحلة التفاوض غير المباشر، لا يبدو في متناول اليد.
ولهذا تبقى مبادرة الرئيس محاولة جادة للخروج من حالة “الستاتيكو” المؤذية للبنان والتي تكلفه يوميا المزيد من الشهداء، وتؤخر اعادة الاعمار، وتمنع عودة الاستقرار. علما ان الرئيس في طرحه، لم يسقط حق لبنان بالمطالبة اولا بتنفيذ “اسرائيل” لمندرجات القرار 1701، لانه لا يمكن التفاوض الجدي “تحت النار”.
وانطلاقا من هذه المعطيات، يمكن القول ان احدا من القوى السياسية لا يتعامل بسلبية مع طرح عون، بانتظار تبلور الفكرة وتحولها الى واقع.
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
.اضغط هنا