البلد بإدارة «التكنوقراط» وزراء بلا قرار

البلد بإدارة «التكنوقراط» وزراء بلا قرار

 

Telegram

 


حين تشكّلت هذه الحكومة، رُوّج بأنها ستكون من وزراء يتصدّون لمشاكل لبنان الناتجة من أمريْن أساسيَّيْن: الانهيار المصرفي والنقدي وتداعياته والخطوات للانتقال منه نحو الأفضل، ونتائج الحرب الصهيونية على لبنان.

وقد حمل تشكيل الحكومة بعناوينها المعروفة آنذاك، بُعد «التكنوقراط» الذين يُعتبرون قادرين على إحداث خرق اقتصادي اجتماعي في ظلّ إعادة اثنين من ثلاثة مراكز قوى مؤسساتية سياسية في لبنان، لكن تبيّن سريعاً أن «التكنوقراط» قد يحملون أفكاراً لتغيير ما، لكنهم غير قادرين على تطبيقها، وأن الإدارة العامة تختلف كثيراً عن التنظير من مكاتبهم في كبرى الشركات المحلية والعالمية، وأن الاقتصاد جزء من السياسة يهدف إلى إدارة المجتمع في كل المراحل والظروف.

فإدارة البلد بكل مواجعه لا يمكن مواجهتها بأفكار معزولة وحمقاء من نوع الـ«تكنوقراط»، وهذا ما انعكس بشكل عميق على أداء الحكومة التي غرقت في ملف التعيينات لأشهر ولم تنجزه بعد، ونجحت في استدامة انهيار القطاع العام، وفشلت في إدارة مرحلة ما بعد الحرب، ولا تزال الكهرباء تعيش في فترة الوزير السابق وليد فياض، والأجور ما زالت فاقدة لنسبة كبيرة من القوة الشرائية، وقصّة النهب المصرفي تسير على أنغام الخطّة الأصلية التي وضعها رياض سلامة، والمالية العامة تواصل التقشّف منذ لحظة الانهيار إلى اليوم... عملياً التشوّهات التي تعمّقت بفعل الأحداث الكبرى من الانهيار المصرفي والنقدي إلى الحرب الصهيونية، بدأت تستقرّ بعمقها الحالي مع حكومة «التكنوقراط» بدلاً من انتشالها من القعر.

يقول أحد الوزراء البارزين، إنّ هذه الحكومة تحديداً كشفت عورة وجود وزراء من فئة التكنوقراط ولا سيما أولئك الآتين من القطاع الخاص والذين ليس لديهم أدنى معرفة بالإدارة العامة وغير ملمّين بآليات ومسالك العمل في الدوائر الرسمية.

فيتعاملون مع الدوائر في وزاراتهم كأنّ الموظفين يعملون لديهم في شركاتهم الخاصة، ويستسهلون التفريط في الأمور السيادية مثل أمن المعلومات، ما أدّى إلى ظهور نمط من العلاقة المتوتّرة أو المتشنّجة بين الوزير التكنوقراط والإدارة العامة التابعة لوصايته. لكنّ الأهم من ذلك كلّه، أن هؤلاء فوجئوا بأنه يُفترض بهم التصدّي لملفات أساسية في السياسة العامة هم ليسوا على قدرها.

تظهر قلة خبرة وزراء التكنوقراط في إدارة العمل الوزاري، سواء في ما يفترض به أن يرفع إلى مجلس الوزراء لاتخاذ القرار بشأنه، أو في الإدارات نفسها التي تتطلّب مهارات بيروقراطية تصبح أكثر إلحاحاً بعدما أصيبت هذه الإدارات بالشلل نتيجة الانهيار المصرفي والنقدي. ويصل الأمر إلى حدّ أن أحد الوزراء يصف العمل الحكومي بأنه «معطّل».

ويحصل ذلك تحت عنوان «لا أريد التعرّض للهجوم من جهة سياسية ما» أو يحصل لأن هناك «احتمالاً بأن يتّهموني في هذا الملف بأنّي سارق». هكذا يُحجم وزراء التكنوقراط عن تنفيذ المشاريع الجديدة، ويؤخّرون السّير بالمشاريع المُقرّة.

وفي النقاشات داخل مجلس الوزراء تظهر بوضوح فكرتهم عن الدولة على أنّها شركة، أي إن قيمة المواطن فيها من قيمة إنتاجه بالدولار في خدمة أصحاب العمل، ولا مكان فيها لدولة الرعاية الاجتماعية ومؤسّساتها، يقول أحد الوزراء. في هذا السياق، استغرق الوزراء وقتاً طويلاً حتى فهموا آليات ومسالك العمل في القطاع العام. وهذا ما بدا واضحاً في النقاشات الدائرة في مجلس الوزراء، إذ ينمّ الأمر عن نقص كبير في الخبرة السياسية لدى عدد من الوزراء الذين يتعاملون مع ملفات سياسية كبرى فيما هم مجرّد «تكنوقراط».

بمعنى آخر، يعطي هؤلاء رأيهم في أمور لم يتعاملوا معها من قبل في حياتهم، وإن كانت لديهم آراء فيها إنما هي آراء بدائية تشبه إلى حدّ كبير الآراء التي تتداول في الشارع وفي المقاهي.

فعلى سبيل المثال، وزير الخارجية يوسف رجّي قليل الكلام في المجلس، صامت معظم الوقت، بينما تخرج التصريحات النارية منه على شكل تغريدات، ما يطرح السؤال عن هوية صاحب المحتوى؛ الوزير أم جهاز إعلامي حوله؟ وفي إحدى المناسبات سُئل «الوزراء التكنوقراط» عن حال الدولة في اليوم التالي في حال سحب سلاح المقاومة، هل سيعود الموظفون إلى مراكز عملهم، ويستتبّ الأمن، وترتفع الإيرادات من ضرائب ورسوم؟

بطبيعة الحال، لم يتمكّن أيّ منهم من الإجابة بسبب غياب أي تقدير عام للوضع، ولا خبرة لهم في السياسة والوضع اللبناني لتسمح لهم بالإجابة.

وفي وقت سابق، ربطت وزيرة حالية في الحكومة بين انتعاش الوضع السياحي وسحب سلاح المقاومة، واعتبرت أنّ الوضع الأمني في الجنوب لا تأثير له على السياحة في لبنان.

فالمناطق المقصودة بعيدة عن الغارات والاعتداءات الإسرائيلية. وفي مثل آخر عن «قلّة فهم» عدد من الوزراء، طلب وزير من قوّة مداهمة في الجيش تأجيل ملاحقة أحد تجار المخدّرات إلى حين انتهاء جولة وفد أجنبي في مرفق عام نظراً إلى ما سبّبته المداهمة من ضجيج وإطلاق نار وتحريك لآليات عسكرية، ما أخاف أعضاء الوفد.

ما سبق نموذج عن «قدرات التكنوقراط». وحتى على مستوى تعامل هذا الصنف من الوزراء مع الشركات الخاصة في لبنان، فإن خلفياتهم، سواء في إدارة الشركات أو جمعيات «أن جي أوز» تطغى على متطلّبات المصلحة العامة، ولا تشبه المطلوب على صعيد إدارة الدولة ككلّ. ويحملون ذهنية تقول بأنّ القطاع العام سيّئ.

وأبرز الأمثلة استعجال وزير الاتصالات شارل الحاج الترخيص لشركة ستارلينك باستعمال التردّدات لبيع الإنترنت بواسطة الأقمار الاصطناعية، لكنه تمكّن من تسويق مسألة أساسية في مجلس الوزراء وهي أن بيع هذه الخدمة بهذه السيولة التكنولوجية لا يدخل في نطاق استعمال التردّدات، وكأنّ الإنترنت ينتقل من السماء إلى المشترك بواسطة الفراغ.

والمشكلة أن الترخيص لهذه الشركة لم يُدرس بشكل «تكنوقراطي» ولو بدراسة جدوى بسيطة للخسائر التي ستترتّب على الخزينة. عملياً، قورب ملف «ستارلينك» من قبل بعض زملاء الحاج في الحكومة بخفّة دفعتهم إلى الترويج للإنجاز الكبير المتوقّع بدخول هذه الشركة إلى سوق الإنترنت، وكأنّها «العصا السحرية» القادرة على حلّ كلّ مشكلات قطاع الاتصالات، علماً أنّ وقف الاستثمار في الشبكة هو ما أدّى فعلاً إلى تراجع جودة الاتصالات، وهذا قرار بيد وزير الاتصالات حصراً. وكلّما استثمرت الدولة في القطاع، ارتفعت قيمته. ولا بدّ من التذكير بأن وجود شبكة إنترنت فعّالة ورخيصة يلغي أيّ إمكانية لدخول «ستارلينك».

قطاعياً، «وزراء التكنوقراط» يراقبون العالم «من فوق»، ولا يعلمون ماذا يجري على أرض الواقع، لذا لا يحقّقون أيّ إنجازات أو اختراقات على مستوى عمل الدولة. فعلى سبيل المثال، قرّرت وزيرة التربية إطلاق العام الدراسي في المدارس الرسمية، في بداية أيلول، أي في وقت مبكر، إلا أنّها تعمل «من فوق»، أي إنّها ترى المدارس شغّالة، ولا ترى أو ترفض أن تعترف، بأنّ التعليم الفعلي في معظم المدارس الرسمية لم ينتظم بعد بسبب عدم انتهاء وزارتها من عمليات نقل الأساتذة، ما يجعل التلامذة يأتون إلى المدارس من دون أن يتعلّموا. بالإضافة إلى أنّ المدارس الرسمية، خاصة المتضرّرة من الحرب، من دون موازنات تشغيلية قادرة على القيام بمصاريفها، ما يجعلها من دون كهرباء وقرطاسية وفي بعض الأحيان الأقلام مفقودة.

وفي النقاشات المتعلّقة بشكل القطاع العام، أو ما يُعرف بـ«إعادة هيكلة الإدارات العامة»، تظهر خطورة تسلّم «وزراء التكنوقراط» زمام القرار، إذ يعتمدون بشكل كامل على الشركات الأجنبية والمنظّمات الدولية لوضع تصوّر مخصّص للدولة. ورغم التردّي الحاصل في الإدارة العامة، إلا أنّ النقاش الوزاري غائب حول الشكل المستقبلي للإدارة العامة بانتظار أمر عمليات خارجي. وفي ظلّ الصمت الوزاري تعمل شركات مثل «سايرن» البريطانية التي تتدخّل في وضع البرامج الإلكترونية لمختلف الوزارات، و«سيجما» الأميركية المسؤولة عن التصوّر الموجود على طاولة مجلس الوزراء حول رواتب العاملين في القطاع العام.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram