في ظلّ استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في لبنان، ومع تصاعد الغلاء وارتفاع كلفة المعيشة وتراجع القدرة الشرائيّة للمواطنين، يبرز النقاش مُجددًا حول جدوى السياسات المُتبعة، وما إذا كانت الحلول المطروحة تتماشى مع طبيعة الأزمة التي يمرّ بها البلد.
“ما يُعانيه لبنان ليس أزمة ظرفيّة بل أزمة بنيويّة عميقة، تتجاوز حدود التضخم العالمي، وترتبط بشكل مُباشر بغياب الإصلاحات الهيكليّة، ووجود احتكارات تعيق أيّ تحسّن اقتصادي فعلي”، هكذا يختصر الخبير الاقتصادي باتريك مارديني لـ “نداء الوطن”، المشهد اليوم.
يُضيف: “الأسعار في لبنان تشهد ارتفاعًا ملحوظًا، وهو أمر مرتبط جزئيًا بـالتضخم العالمي نتيجة السياسات الاقتصاديّة والنقديّة التي اعتُمدت في مختلف دول العالم خلال السنوات الماضية. الأسعار ترتفع في الولايات المتحدة، وفي أوروبا، وفي كل الأسواق، ولبنان بطبيعة الحال ليس استثناءً.
لكن، وفي حين أن التضخم في العالم يعتبر إلى حد كبير ظرفيًا، يؤكّد مارديني أنّ “في لبنان المشكلة أعمق من ذلك”، إذ نعيش ما يسمّيه “غلاءً بنيويًا متجذّرًا” ناتجًا عن احتكارات مزمنة وضعف كبير في البنية التحتية العامة”.
فواتير مرتفعة وخدمات متدهورة
يُقدّم مارديني أمثلة عديدة على هذا الغلاء البنيوي:
“الكهرباء: ندفع فواتير مرتفعة لأن الدولة تحتكر هذا القطاع، ولا تتمكّن من تأمين الخدمة، ما يضطرّ المواطنين للاعتماد على المولدات الخاصة ذات الكلفة الباهظة.
الإنترنت: الأسعار مرتفعة مقارنة بنوعية الخدمة، ولا تتناسب مع ما يدفعه المواطن.
المياه: المواطن يضطر لشراء المياه عبر الصهاريج بسبب عجز مؤسسات الدولة عن تأمينها.
النفايات: كلفة جمع النفايات مرتفعة أيضًا، بسبب وجود احتكارات في هذا القطاع”.
ويقول مارديني: “إن كل هذه الأكلاف المرتفعة تنعكس مباشرة على المواطن والشركات، فترتفع كلفة المعيشة وكلفة الإنتاج معًا، ما يؤدّي إلى شلل اقتصادي يصعب تجاوزه دون إصلاح جذري”.
الأجور لا ترتفع…
في المقابل، يشير مارديني إلى أنّ “الأجور في لبنان تبقى متدنية، لكن هذا لا يعود فقط إلى الغلاء، بل إلى ضعف الإنتاجية والركود الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، وهو ما يحدّ من قدرة المؤسسات على زيادة الرواتب”.
ويشرح ذلك بمثال مبسط: “شركة صغيرة تحقّق دخلًا شهريًا بقيمة 2500 دولار، وتوظّف أربعة أشخاص يتقاضى كل منهم 500 دولار. يبقى لصاحب الشركة 500 دولار فقط كهامش ربح.
إذا قررت الشركة رفع الأجور إلى 700 دولار للموظف، تصبح الكلفة الإجمالية 2800 دولار، أي أكثر من دخلها، ما يجبرها على صرف موظف أو اثنين، أو الإقفال نهائيًا”.
ويخلص إلى أنّ “أي زيادة غير مدروسة في الأجور قد تؤدي إلى نتيجة عكسية: ارتفاع البطالة بدل تحسين المعيشة”.
الناتج المحلي تقلّص
يشير مارديني إلى أنّ “الاقتصاد اللبناني يعاني من انكماش حاد، حيث انخفض الناتج المحلي من نحو 54 مليار دولار قبل الأزمة إلى ما يقارب 20 مليارًا فقط اليوم”.
ويقول: “هذا يعني ببساطة أن البلاد تنتج أقل بكثير، وبالتالي ما يُوزّع كرواتب وأجور لا يمكن أن يزيد إلا إذا زادت الإنتاجية”.
ويؤكّد أن الحل لا يكمن في رفع الأجور بشكل اصطناعي أو اتخاذ قرارات ظرفية، بل في معالجة جذور الأزمة عبر الخطوات التالية:
أولًا- تفكيك الاحتكارات وفتح الأسواق أمام المنافسة.
ثانيًا- تحسين البنى التحتية في الكهرباء، الاتصالات، والمياه.
ثالثًا- دعم القطاعات الإنتاجية لخلق فرص عمل حقيقية.
ويجزم أنه “من دون هذه الإصلاحات، تبقى الشركات تعمل من لحمها الحيّ، بالكاد تستمر، ويستمر معها الجمود الاقتصادي والضغط الاجتماعي”.
إعادة هيكلة القطاع العام
يتوقف مارديني عند غياب أي عملية إصلاح أو إعادة هيكلة في القطاع العام، رغم كل الأزمات التي عصفت بالبلاد. في المقابل، شهد القطاع الخاص عملية إعادة هيكلة قاسية، من الأزمة الاقتصادية، إلى جائحة كورونا، فانفجار مرفأ بيروت، والحرب الأخيرة.
ويقول: “العديد من الشركات أقفلت أو تقلّص حجمها بشكل كبير، ما أدى إلى صرف أعداد كبيرة من الموظفين. أما في القطاع العام، فالوضع مختلف. هناك مؤسسات عامة كثيرة شبه معطّلة، والموظفون يتقاضون رواتبهم من دون تقديم أي إنتاج فعلي”.
ويؤكّد أن هذا الوضع غير مقبول، لأن تمويل القطاع العام يأتي من إيرادات القطاع الخاص، الذي تقلص بدوره بأكثر من 60 %. ويرى أن الحل يكمن في:
– تقليص عدد موظفي القطاع العام إلى النصف على الأقل، خصوصًا أولئك الذين لا يؤدّون مهامّ منتجة.
– إعادة دمج هؤلاء في القطاع الخاص ضمن وظائف أكثر فاعلية.
– توجيه الوفر الناتج نحو تحسين رواتب الموظفين الفاعلين والمنتجين في الإدارات العامة.
ويشدّد على أنّه “بهذه الطريقة فقط يمكن تحقيق توازن حقيقي بين الكفاءة المالية والعدالة الاجتماعية، وربط الأجور بالإنتاجية، وهو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة البنيوية التي يعيشها لبنان”.
ويرى مارديني أنه رغم الاعتقاد بأن لبنان وصل إلى “القعر” في عام 2022، جاءت الحرب الأخيرة لتضيف عاملًا مفاجئًا أثّر سلبًا على النمو مجددًا. ويقول:
“في عام 2025، يُفترض أن تكون الحرب قد انتهت، والأوضاع بدأت تستقر، وبالتالي من الطبيعي أن لا يكون السوق في الحال نفسها كما في العام السابق. نحن نأمل بتحسّن الوضع، لكن تبقى هناك مشكلات بنيوية عميقة – من أبرزها الاحتكارات والأزمة المصرفية – وهذه ما زالت قائمة. فإذا لم تُحلّ، فلن يكون هناك نمو فعلي، وسنبقى في القعر”.
ويشير إلى أنّ “تحسين معيشة المواطنين تبدأ بتخفيف كلفة الفواتير الأساسية: الكهرباء، المياه، الاتصالات، والإنترنت، وهو أمر لا يتحقق إلا عبر تفكيك الاحتكارات في هذه القطاعات، وفتح المجال أمام شركات جديدة للمنافسة، لأن المنافسة هي التي تضمن خفض الأسعار وتحسين الخدمات. حين تدخل شركات جديدة تقدّم أسعارًا وخدمات أفضل، تنخفض الكلفة على المواطن، وتتحسن قدرته الشرائية”.
يضيف: “عندما تنخفض كلفة الإنترنت وتتوفر الخدمة الجيدة، يمكن للشركات التكنولوجية أن تعمل من لبنان. وعندما تتأمّن الكهرباء، تنتعش الصناعة. لدينا مهندسون من خريجي أفضل الجامعات، لكنهم يغادرون لأنهم لا يجدون بيئة عمل مؤهلة”.
ويختم مارديني بالقول: “معالجة مشاكل الكهرباء والاتصالات والمياه ليست ترفًا، بل هي شرط أساسي لأي نمو اقتصادي. من دونها، تبقى الإنتاجية ضعيفة، ولا يمكن للبلد أن ينهض”.
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
.اضغط هنا