طوفان الأقصى.. إرث المقاومة الذي لن يُمحى

طوفان الأقصى.. إرث المقاومة الذي لن يُمحى

 

Telegram

في المستقبل، سنعود في صباح كل يوم يتصادف مع السابع من أكتوبر لنستذكر حدثاً لم يشهد الصراع العربي الإسرائيلي مثيلاً له. وسنبقى لزمن طويل نحاول أن نتحرر من أسئلة ستقيد أفكارنا نتيجة العجز عن تقديم إجابات تعبر عن عمق الحدث.

لم يكن أحد يتوقع أن تتحول المقاومة من أسلوب دفاعي ردعي محدود في مقارنته بإمكانات الكيان، ويستهدف في لحظات كثيرة مجرد الحفاظ على وجودها، إلى مقاومة قادرة على تنظيم هجوم معقد متقن استطاع أن يكسر منظومة الكيان الأمنية الفولاذية.

فالمقاومة في غزة، على اختلاف فصائلها، لم تكن تتمتع بمساحة من الأمان أو بمجال رحِب للحركة وتطوير القدرات، حيث كان القطاع خاضعاً لحصار مطبق يتحكم في سلاسل التوريد على اختلاف أنواعها، دون أن ننسى أساليب الترغيب التي مارسها الكيان بالتواطؤ مع بعض الحلفاء المفترضين للمقاومة حتى تتخلى عن خياراتها، أو بأقل تقدير، حتى تستمر في المحافظة على الهدوء الذي يعكس إمكانية لتعايش الكيان مع واقع سيطرة الحركة على القطاع.

في مقال كتبته ونشرته الميادين نت في 6 أكتوبر عام 2023 كان عنوانه: ” محور المقاومة وحرب تشرين… إعادة صياغة عوامل النصر”، قدمت جانباً تحليلياً لحرب تشرين 1973 مستهدفاً محاولة تقدير كيفية قراءة محور المقاومة لهذه الحرب، وما يمكن أن يكون قد استخلصه من نتائج تصلح لتطوير تجربة المقاومة بشكل عام. في إطار التحليل، توصلت إلى عدة نتائج أثبت التاريخ صحتها، بدءاً من التركيز على البعد الإيديولوجي للصراع، مروراً بكسر الصورة النمطية للجندي الإسرائيلي، أي صورة الجندي الذي لا يُقهر، وصولاً إلى فرض معادلات الرعب التي يمكن أن تتجسد بقصف المستوطنات وتعطيل قدرات الجيش على حمايتها، على أن تكون وحدة الساحات والالتزام المتبادل بفتح الجبهات متى تطلب الأمر ذلك، أو بناءً على طلب إحداها، باكورة ما توصل إليه عقل المحور. في الحقيقة، ورغم كل ما اعتبرته مؤشراً لتطور المقاومة ومحورها، لم أكن أتوقع أن تنتقل المقاومة من الدفاع إلى الهجوم بهذه الطريقة، التي شهدناها في اليوم التالي، أي في 7 أكتوبر، حيث تخطى العقل المقاوم في غزة ما يمكن اعتباره توقعات منطقية وواقعية في تلك اللحظة.

من ناحيته، استطاع الكيان الإسرائيلي أن يُقدر خطورة الحدث قبل أن يتحرك في الميدان. فتحليل الحدث وآثاره على وجود الكيان مستقبلاً كانا أسرع من رد فعل الجيش الإسرائيلي الذي احتاج لساعات طويلة حتى يتحرك. فحين كان المقاومون يدخلون إلى المستعمرات ويجمعون الأسرى بأعداد كبيرة، كان التحليل الإسرائيلي يبحث في الأثر المفترض لهذا التحول الفارق على مسار التفوق الإسرائيلي من ناحية، وإعادة خلق شعور جامع، شعبي على الأقل، بإمكانية هزيمة الكيان وزواله من ناحية أخرى.

فالإشكالية الأساسية التي ستواجه الكيان في المستقبل لن تقتصر على حجم الضرر المادي أو على عدد القتلى أو الفشل الأمني، الذي كان سبباً لنجاح عملية طوفان الأقصى، وإنما سيواجه أيضاً إشكالية تتعلق بتشكيل الوعي لدى المواطن العربي الذي عمل الكيان على صقله وفق ثوابت كان يعتقد أنها ستترسخ إلى الأبد، مستنداً إلى تكرار الحديث عن صورة الهزيمة كعاهة ملازمة للعرب، والتفوق الاستراتيجي كميزة يختص الكيان بها، إضافة إلى قدرته على تحييد مدنه ومستعمراته في أي مواجهة محتملة، وعدم سماحه بإعادة ترميم الالتفاف الشعبي العربي حول المقاومة، دون أن ننسى نجاحه، بالتكافل والتضامن مع المنظومة الغربية، في تفتيت النظام الرسمي العربي من خلال تكريس عدم جدوى مواجهته عسكرياً، وتظهير التسوية كخيار لا بديل عنه.

ساعات قليلة كانت كفيلة لتحدد مسار المعركة بين الطرفين، حيث بدأ الأطراف المعنيون بالصراع يصطفون لمواجهة تتخطى في حدودها ما يمكن تحديده على أنه متناسب مع طوفان الأقصى. فمقابل جبهات الإسناد التي التزمت بما تعاهدت عليه بالوقوف إلى جانب أي حركة مقاومة، تتعرض لعدوان بما يعكس إصرارها على مأسسة العمل المقاوم وفق نموذج عابر للحدود، وقف الغرب متضامناً، متكافلاً، مستعداً للدفاع عن الكيان في مواجهة تهديد اعتبره وجودياً. ولأن أحداً لم يُعَرّف طوفان الاقصى على أنه يستهدف إزالة الكيان من الوجود، فقد كان واضحاً أن الخطر الوجودي، في المفهوم الغربي، يتعلق بتبلور قدرة على تشكيل خيار مقاوم، يخرج عن الأطر المتعارف عليها سابقاً.

فالخطر الذي يجسده التحول من الدفاع إلى المبادرة الهجومية، وتأكيد جدية إدخال حركات المقاومة في مشروع تحالفي تضامني من خلال تفعيل جبهات الإسناد، إضافة إلى ضرب التفوق الاستراتيجي والأمني الإسرائيلي في صميمه، جعلت القوى الغربية تتنبه لإمكانية فقدان نفوذها ودورها وأدواتها ومشروعها التاريخي في المنطقة، إذا تغيرت المعادلات الحاكمة لتوازن القوى الإقليمي.

وعليه، اتخذت القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة والثلاثي الأوروبي، قرارها بتقديم الدعم والغطاء لعدوان إسرائيلي شامل، يستهدف إلغاء مفاعيل طوفان الأقصى، ويؤدي دوراً رادعاً، لا في مواجهة قوى المقاومة فقط، وإنما في مواجهة أي من الدول العربية التي قد تتجرأ على الخروج على النظام الإقليمي الذي ينتظم تحت الإدارة الأميركية.

فمن الضربات التي تلقتها المقاومة في لبنان، والتي كان أصعبها اغتيال الأمين العام وتفجير البايجر وقتل القادة، إضافة إلى دفع حركة المقاومة الإسلامية حماس إلى القبول بالتخلي عن حكم غزة، نتيجة الأثمان البشرية والمادية التي تكبدتها، وكذلك أهل القطاع، وصولاً إلى إسقاط النظام في سوريا، وإسقاط الحصانة عن الأراضي الإيرانية التي تعرضت لعدوان إسرائيلي أميركي مباشر، أو كذلك عن الدول العربية، بدليل الاعتداء على قطر، بالتوازي مع التأكد من عدم وجود نية لتحرك أي من الدول العربية المنضوية ضمن التحالف الغربي إلى جانب قوى المقاومة، أمكن التقدير أن القوى الغربية باتت ترى في الواقع الإقليمي ما يكفي لتأكيد إسقاط مفاعيل طوفان الأقصى…

وبالتالي، فإذا كانت هذه القوى في الأشهر الأخيرة قد تداعت، كما تدّعي، للضغط باتجاه الوصول إلى وقف لإطلاق النار في غزة، فإن هذا التوجه لا يتوافق مع ادعاء السعي لوقف عدوان تحول إلى جريمة إبادة بشرية، وإنما يرتبط بقناعة بأن النتائج الميدانية للعدوان على كل الجبهات قد باتت كافية لتحويل طوفان الأقصى من إنجاز نوعي يعبّر عن تطور العمل المقاوم، إلى فعل جعل الأثمان المترتبة عليه غير قابلة للتحمل.

بطبيعة الحال، يمكن لهذه القناعة أن تكون صحيحة إذا جرت مقاربة الواقع الاجتماعي لبيئة المقاومة في المنطقة وفق حسابات تتعلق بالمنفعة المادية، التي تُعتبر حاكمة في المجتمعات الغربية.

أما المجتمعات التي تتشكل منها بيئة للمقاومة، ولأنها تعتبر أن مشروعها المقاوم متحرر من الحسابات المادية التي يمكن اختصارها بمعادلة الربح والخسارة المادية، ومرتبط عضوياً بمشروع إيديولوجي يرتكز على أسس دينية وأخلاقية، فإن تقديرها لتأثير النكسات أو الضربات التي قد تتعرض لها، لن يتخطى إطار البحث في كيفية الاستفادة من الدروس، إضافة إلى إصرارها الدائم على توثيق الإنجازات، مهما كان حجمها مقابل الأثمان المدفوعة، في سجلها التاريخي بما يضمن تحويلها إلى إرث متجذر في وعيها الجماعي.

وبالتالي، يمكن القول إن رد الفعل الغربي والإسرائيلي على طوفان الأقصى، في إطار التشويه وتعظيم الأثمان التي تحملتها المقاومات وبيئتها، لن يؤدي أبداً إلى محو أثره وتحويله إلى ما يشبه نكسة أو عملاً متهوراً غير محسوب النتائج.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram