اعتكاف الرئيس نواف سلام: بين النص الدستوري وتعقيدات الواقع اللبناني

اعتكاف الرئيس نواف سلام: بين النص الدستوري وتعقيدات الواقع اللبناني

 

Telegram

 

الدكتورة رشا أبو حيدر

يُشكّل موقع رئاسة مجلس الوزراء في لبنان محور التوازنات الدستورية والسياسية، نظرًا لطبيعة النظام البرلماني–الطائفي الذي يقوم على مبدأ المشاركة. وأي خطوة استثنائية يقدم عليها رئيس الحكومة، سواء بالاستقالة أو الاعتكاف أو تعليق العمل، تُثير بالضرورة جدلًا واسعًا حول مشروعيتها القانونية وانعكاساتها السياسية. في هذا السياق، أثار إعلان الرئيس نواف سلام اعتكافه تساؤلات أساسية: هل يستند هذا التصرف إلى سند دستوري، أم أنه يصطدم بمبدأ استمرارية المرفق العام في لحظة وطنية حرجة؟

النصوص الدستورية لم تتطرّق صراحة إلى مسألة اعتكاف رئيس الحكومة أو تعليقه لعمله. هذا الصمت التشريعي يترك المجال مفتوحًا أمام التقدير السياسي، لكنه يصطدم بمبدأ قانوني راسخ هو استمرارية المرفق العام، أحد ركائز القانون الإداري. والمادة 64 من الدستور، في فقرتها الثانية، تنصّ على أن الحكومة بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة تمارس صلاحياتها بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال. المشرّع الدستوري هنا أراد تأمين استمرارية الدولة ومنع الفراغ حتى في أحلك الظروف. وبالتالي، فإن الاعتكاف، وإن لم يخرق نصًا صريحًا، يمكن اعتباره عمليًا التفافًا على هذا المبدأ، لأنه يفرغ قاعدة تصريف الأعمال من مضمونها.

من زاوية المسؤولية، ربط الدستور في المادة 70 المحاسبة السياسية بالمجلس النيابي الذي يملك حق مساءلة الحكومة ورئيسها. ما يعني أن أي تقصير أو اعتكاف لا ينتج عنه جزاء قضائي مباشر، بل يُعالج في الميدان السياسي والشعبي. هنا يبرز الاعتكاف كأداة ضغط سياسية أكثر منه تصرفًا قانونيًا، يلجأ إليها السياسيون للتعبير عن اعتراضهم أو لإرسال رسائل داخلية وخارجية. غير أن قيمته كوسيلة احتجاجية تصبح موضع شك حين تؤدي إلى تعطيل إضافي لمؤسسات الدولة، خصوصًا في ظل أزمات اقتصادية ومالية واجتماعية خانقة.

المقارنة مع تجارب أنظمة برلمانية أخرى تساعد على توضيح الصورة. ففي فرنسا، اعتاد رؤساء الحكومات والوزراء على اللجوء إلى الاستقالة كخيار سياسي دستوري واضح، يفتح الباب أمام حلول دستورية كإعادة تشكيل الحكومة أو الدعوة إلى انتخابات. أما في إيطاليا، فقد شهدت الحياة السياسية حالات محدودة من تعليق مشاركة وزراء في جلسات الحكومة، لكنها لم تصل إلى حد اعتكاف رئيس حكومة عن ممارسة صلاحياته. في المقابل، يعكس لبنان خصوصيته السياسية، حيث تُستبدل الاستقالة أحيانًا بخطوات رمزية مثل الاعتكاف أو المقاطعة، نتيجة هشاشة النظام الطائفي الذي يسعى إلى تجنب صدمات أكبر عبر أعراف غير منصوص عليها.

أما على الصعيد العملي، فإن خطوة الرئيس نواف سلام تطرح معضلة إضافية. فالمواطن، الذي ينتظر من السلطة التنفيذية حلولًا للأزمات، قد يقرأ الاعتكاف بوصفه انسحابًا أكثر مما هو صرخة إصلاحية. والبعد الأخلاقي أو المبدئي الذي قد يُراد من الاعتكاف يصطدم بالحاجة الماسة إلى إدارة حكومية، ولو بحدود تصريف الأعمال. وهذا ما يجعل التوقيت والظروف المحيطة بالقرار عاملين أساسيين في تقييمه.

خلاصة القول إن اعتكاف الرئيس نواف سلام لا يخالف نصًا دستوريًا مباشرًا، لكنه يتناقض جوهريًا مع مبدأ استمرارية المرفق العام ومع واجب مضاعفة الجهود في مواجهة الأزمات. يمكن النظر إليه كرسالة سياسية أو موقف احتجاجي مشروع، غير أن خطورته تكمن في أثره العملي على مؤسسات الدولة التي تعاني أصلًا من عجز مزمن. من هنا، فإن الشرعية الشكلية للاعتكاف لا تكفي لتبريره، بل إن مقتضيات المرحلة تتطلب تعزيز التعاون والعمل بدل الانكفاء، حفاظًا على ما تبقّى من ثقة المواطنين بالدولة ومؤسساتها.

 

 

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram