كتب رشيد حاطوم
لم يعد التوريث السياسي في الجبل الدرزي مجرد ظاهرة، بل هو نظام "مافياوي" متكامل الأركان، يحكمه قانون صامت: "الطائفة مزرعة العائلة، وأبناؤها قطيعها البشري". لقد تم تفكيك مفهوم الزعامة التقليدية التي كانت، رغم سلبياتها، تحمل شيئًا من مسؤولية "الأكبر" تجاه "الأصغر"، ليحل محلها تحالف أوليغارشي عائلي يمارس سلطته بنفس عقلية مالك العبودية على مزرعته. هذه ليست مبالغة، بل هي التشخيص الدقيق لواقع تم فيه تحويل الدماء والتضحيات إلى عملة سياسية، والإيمان الطائفي إلى أداة للابتزاز.
الوراثة هنا ليست مجرد توريث منصب. إنها عملية منهجية تشبه "غسيل الدماغ المؤسساتي":
1. التجهيز الإعلامي: يُصنَّع الوريث عبر إعلام زعموا أنه "طائفي" لكنه في الحقيقة "عائلي". يُقدَّم الابن على أنه القائد الطبيعي والفطري، عبر خطابات مسيطَر عليها وحضور مصفَّق له مسبقًا.
2. التجنيد الإداري: يُدرَّب الوريث على إدارة "شبكة المصالح" لا على خدمة الناس. يبدأ بمنصب في مؤسسة حزبية أو جمعية خيرية، ليس لتعلم العمل المجتمعي، بل لتعلم كيفية تحويل الخدمة إلى دين سياسي على الناس.
3. اقتصاد الريع: تُبنى ثروة العائلة على احتكار الوصول إلى الدولة والمقاولات والصفقات. يصبح الوريث وريثًا لهذه الشبكة الاقتصادية التي تشكل العمود الفقري للسلطة، مما يضمن سيطرة مالية تمنع ظهور أي منافس حقيقي.
أكثر الأدلة مأساوية على فشل هذا النظام هي النتائج الملموسة على الأرض، والتي تشير إلى إفقار منهجي للمجتمع:
الكارثة الديموغرافية: خسر المجتمع الدرزي ما يقارب "50% من أبنائه بسبب الهجرة". هذا ليس حادثًا، بل هو نتيجة طبيعية لغياب أي أفق اقتصادي. لقد فشلت الزعامة في بناء معمل أو جامعة أو مشروع إنتاجي واحد يحافظ على الطبقة الوسطى ويوفر فرص عمل للشباب.
الانهيار الاقتصادي: تراجعت حصة الدروز في الاقتصاد اللبناني من "12% إلى أقل من 2%" خلال عهود هذه الزعامة. كما تقلصت حيازتهم العقارية التاريخية من أكثر من "60% من الساحل إلى أقل من 40% حتى في الجبل"، مما يشير إلى بيع منهجي للرصيد الاستراتيجي للجماعة.
هجرة رؤوس الأموال:
سياسات الزعيم و"بلطجيته" كانت السبب الرئيسي في هجرة رجال الأعمال والنخب المثقفة الدروز، الذين فضلوا الاستثمار في بيئات أكثر أمانًا بدلاً من مواجهة نظام الريع والشراكة القسرية.
المؤسسات الخيرية والدينية: واجهة للاتجار بالألم وتذويب الهوية
يحول النظام كل مؤسسة، حتى أكثرها قدسية، إلى أداة للهيمنة:
المستشفى: سوق انتخابي متنقل:(مستشفى الجبل للجوهرة ) المؤسسات الخيرية، مثل المستشفيات، تتحول إلى "مكنة انتخابية". يتم ربط الخدمة الطبية بالولاء السياسي، في عملية ابتزاز ممنهجة تحول الألم إلى سلعة.
احتكار الديني: إخضاع الأوقاف ومشيخة العقل: ذروة الاستغلال تكمن في تحويل مؤسسة الأوقاف - وهي الذراع المالي والروحي للطائفة - إلى أداة في يد الزعيم السياسي. قضية تعيين الشيخ سامي أبي المنى نموذجًا صارخًا: حيث تم فرض التعيين خلافًا لإرادة الهيئة الروحية التي يمثل رأيها الاساس في هذا الشأن، وضرب اعتراضها عرض الحائط. هذه الخطوة لم تكن سوى لتأمين سيطرة كاملة على أموال الأوقاف وعائداتها العقارية الضخمة، والتي كان من المفترض أن تخدم المجتمع ككل. النتيجة؟ أصبح الشيخ أبي المنى "لاهثًا وراء جنبلاط لإرضائه"، مما حول مؤسسة دينية يجب أن تكون مستقلة إلى إدارة مالية شخصية تخدم نظام الزعيم وتقويه ماليًا.
الأخطر من ذلك كله هو الهجوم المزدوج على جوهر الهوية الدرزية. فباسم "الاندماج" أو "العروبة"، يتم فرض أدبيات دينية غريبة عن الموروث الدرزي. ولكن الإخفاق الأكبر يكمن في تخلي مؤسسة مشيخة العقل عن واجباتها المجتمعية الأساسية.
بينما يعاني الشباب الدرزي من أزمة وجودية حادة، أبرز مظاهرها "عزوف كبير عن الزواج بسبب الواقع الاقتصادي المُزري" وانهيار القدرة على تكوين أسر، نجد أن الشيخ المعيّن - الذي فرضته السياسة - منشغل بالبروباغندا الإعلامية والظهور "الميديالي"، عاجزًا تمامًا عن طرح أي حلول جذرية لهذه المعضلة التي تهدد النسيج الاجتماعي والوجود الديموغرافي للطائفة بمستقبلها. هذه ليست مجرد إهمال، بل هي خيانة للواجب الديني والاجتماعي الذي من أجله وُجِدَت هذه المؤسسة أصلاً، وهي الحفاظ على كيان المجتمع واستمراريته.
من الوزارات السيادية إلى "ديكور الدولة
لم يقتصر الأمر على الاقتصاد، بل امتد ليشلّ القوة السياسية للطائفة:
فقدان النفوذ:
تحول الدروز من شغل مناصب وزارية سيادية إلى مجرد "ديكور" أو "حشو" في مؤسسات الدولة. لقد خسروا ما لا يقل عن "5000 منصب" دون تعويض، وأصبح من تبقى منهم يعمل تحت إدارة أحزاب إسلامية، بعد أن جعلتهم الزعامة "مرتزقة" تابعين لهذا المحور أو ذاك.
حزب عريق كان ممتدًا في كل المجتمعات اللبنانية تقزّم ليصبح "حزب المختارة"، فيما الإدارة المدنية التي كان يُفترض أنها أداة تنمية لم تشهد أي تطور يذكر في مناطق الجبل.
هذا النظام، الذي بني على اختراع الأعداء وإدارة الأزمات، ينهار من الداخل. لقد انكشفت آليته الأساسية للجميع. فبعد أن روج في حملة 2022 الانتخابية لشعار مخيف وهو "أن الشيعة على أبواب المختارة"، ها هو اليوم يقف عاريًا من أي عنوان جديد مقنع. لقد استهلكت السردية، ولم يعد بمقدور "عدو وهمي" أن يخفي فشلَ عقود في الإدارة والتنمية.
ولكن الضربة الأكثر قسوةً التي يتلقاها النظام الآن تأتي من حيث لم يتوقع: من قلب المنظومة الدينية ذاتها. فاستغلال الزعيم للشيخ موفق طريف وتحويله إلى ورقة في صراعاته، بدلاً من احترام مكانته كرمز للوحدة الروحية، هو خطأ استراتيجي فادح. وفقًا لمراقبين، فإن هذه الخطوة ستكلفه خسارة فادحة تتمثل في **سحب ثقة المشايخ في الطائفة، والأخطر، قلب معظم محازبيه التقليديين الذين باتت قلوبهم مع الشيخ طريف. هذه الظاهرة ليست مجرد تحول سياسي، بل هي "تمرد أخلاقي وروحي" على نموذج الزعامة الفاسد.
هذا الانهيار للشرعية من الداخل، مقترنًا بالتمرد الانتخابي للشباب، يؤشر إلى أن اللحظة الحاسمة تقترب. السؤال لم يعد عن إذا سينهار النظام، بل عن السرعة التي سينهار بها. الإخفاق ذريع على كل المستويات. المخرج الحقيقي هو في استمرار هذا التمرد الأخلاقي والاجتماعي، وولادة قيادات تفصل بين الزعامة الحزبية وإدارة شؤون الطائفة، لتعيد البناء على أساس المواطنة والحقوق. لقد انتقلنا من نظرية المؤامرة إلى علم الحساب، والآن نحن نشهد انهيار آخر رهان للنظام: رهان تخدير العقول والقلوب. المعركة الفاصلة هي معركة الوعي ضد استغلال دام عقودًا، وكافة المؤشرات تُظهر أن وعي الناس سبق أخيرًا آلة الزعيم الدعائية.
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :