كتب رشيد حاطوم
ناشر ورئيس تحرير موقع "iconnews"
في لحظة تبدو مفصلية في تاريخ المنطقة، حيث تتكشف الأوراق وتتساقط الثوابت القديمة تحت وطأة المجازر "الإسرائيلية" في غزة والعدوان المتصاعد، تبرز مبادرة الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، الموجهة إلى المملكة العربية السعودية كمنعطف تاريخي يستدعي القراءة والتحليل. هذه المبادرة ليست طارئة، بل هي تتويج لترتيبات خلف الستار ونتيجة حتمية لقراءة متجددة للمخاطر الوجودية التي تهدد الجميع.
سقوط الافتراضات وولادة تحالفات جديدة
لم يكن خطاب رئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن "إسرائيل الكبرى" ومجازر غزة مجرد عدوان عابر، بل كان صفعة واقع للكثير من المعادلات. لقد كشف هذا العدوان عن حقيقة مفادها أن المشروع التوسعي الإسرائيلي لا يستثني أحداً. الرسالة التي وجهت عبر استهداف قطر، والتي فُهمت على أنها موجهة إلى السعودية، كانت بمثابة جرس إنذار أخير.
في هذا السياق، لم تكن ردة الفعل السعودية تقليدية. فبدلاً من الانكفاء، سارعت الرياض إلى تعزيز أمنها القومي عبر توقيع معاهدة دفاع مشترك مع باكستان، القوة النووية الإسلامية، والتي أعلنت على لسان مصادرها استعدادها لمساندة حتى إيران – الخصم التقليدي – في مواجهة أي حرب أمريكية إسرائيلية. هذه الخطوة لم تكن فقط لتأمين العمق الاستراتيجي، بل كانت إعلاناً صريحاً عن سقوط فرضية "التحالف العربي الإسرائيلي" الذي كان يُراد له مواجهة إيران، ليكشف أن العدو الحقيقي والمباشر هو من يحتل الأرض ويسفك الدماء في غزة والقدس.
التقارب السعودي الإيراني والاتصالات غير المباشرة
لم يكن التقارب السعودي الإيراني، وخاصة في حلقة الحوار الأخيرة بين علي لاريجاني وولي العهد محمد بن سلمان، مجرد مصالحة بين خصمين، بل كان الأساس الذي انبثقت عنه تحولات أعمق. وفقاً للمصادر الدبلوماسية، هذا الحوار المباشر فتح قنوات اتصال غير مباشرة بين الرياض وحزب الله، الطرف المؤثر بشكل مباشر في معادلة المواجهة مع إسرائيل. لقد أدركت الأطراف جميعاً أن المواجهة المصيرية القادمة تتطلب حشد كل الإمكانات وعدم ترك أي ورقة خارج المعادلة.
مصر: الثقل الخفي وداعم الاستقرار
على الرغم من أن الأضواء تتجه اليوم نحو الحوارات الجديدة بين السعودية وحزب الله، إلا أن دور مصر يبقى حجرًا أساسيًا في المعادلة الإقليمية. فمصر، بثقلها التاريخي والعسكري والسياسي، ظلت تسعى — من خلال قنواتها الدبلوماسية — إلى تخفيف التصعيد ودعم صمود غزة، ورفضت أي محاولات لتهجير سكان القطاع إلى أراضيها، لا بل ذهبت ابعد من ذلك فاعتبرت صمود غزة هو خط الدفاع الاول عن القاهرة ومؤكدة أن الأمن القومي العربي كتلة واحدة.
ولا يمكن فصل أي تحوّل إقليمي عن الموقف المصري، الذي يُعتبر — حتى في صمته — عامل توازن لا يُغفل.
مبادرة الشيخ قاسم: اختصار للطريق وانتقال إلى المباشر
في هذا المناخ، جاءت كلمة الشيخ نعيم قاسم علناً لاختصار الطريق. نداؤه للحوار "لتنقية العلاقة وإزالة المخاوف وضمان المصالح" هو في جوهره إعلان عن نية الانتقال من الحوار غير المباشر إلى المرحلة الأكثر جدية: "الحوار المباشر".
إنها إشارة ذكية وواضحة بأن الطرفين يدركان أن التحدي الإسرائيلي المشترك، المدعوم أمريكياً بشكل مطلق، أكبر من الخلافات الثانوية وأقدم من التحالفات الظرفية.
نحو معادلة إقليمية جديدة
ما تشهده المنطقة اليوم هو ولادة معادلة جيوسياسية جديدة تقوم على الأسس التالية:
1. وضوح العدو المشترك: لم تعد إسرائيل شريكاً محتملاً لأي طرف في المنطقة، بل هي تهديد وجودي مباشر للعرب والمسلمين على حد سواء، وهو ما أكدته تصريحات قادتها وممارساتها على الأرض.
2. أولوية الأمن القومي على الخلافات: لقد تجاوزت الدول والفاعلون غير الدوليين مرحلة الخلافات الإيديولوجية لصالح ضمان الأمن القومي والاستقرار في مواجهة مشروع توسعي لا يعترف بالحدود.
3. دور القوى الفاعلة: لم يعد المشهد مقتصراً على الدول فقط، بل أصبحت قوى مثل حزب الله وحتى باكستان لاعباً أساسياً في تشكيل التحالفات الإقليمية الجديدة.
إن مبادرة حزب الله ليست مجرد كلمة عابرة، بل هي انعكاس لصرخة المنطقة كلها: "العدو واحد". إنها لحظة تاريخية يجب على القادة والمعنيين التقاطها والبناء عليها، فالمفاوضات المباشرة بين المملكة العربية السعودية وحزب الله، التي قد نراها في القادم من الأيام، لن تكون مفاوضات بين طرفين متناقضين فحسب، بل ستكون لبنة أساسية في جدار دفاعي جديد يحمي الأمة من مشروع "إسرائيل الكبرى" الذي يهدد الجميع. المرحلة دقيقة وخطيرة، ولكنها تحمل في طياتها بذور تحول استراتيجي قد يعيد رسم خريطة التحالفات في الشرق الأوسط لعقود قادمة.
من دماء غزة.. تُولدُ لحظة الوحدة
اخيرا ليس آخرا ها هي ذي المشاهد تتكشف أمام أعيننا، مشاهد لم تعد تحتمل الصمت أو التأويل. من تحت أنقاض غزة وأجساد أطفالها الممزقة، من دموع أمهاتها الثكالى، ومن صمود أهلها الذين يروون بدمائهم تراب الوطن، تُولد رسالةٌ إلى كلِّ العرب والمسلمين: لا فرقَ بين دمٍ ودمٍ.. فالعدوُّ واحدٌ، والمصيرُ واحد.
ها هي ذي الضربات تتوالى.. ضربةٌ على قطر رسالةٌ، وعدوانٌ على سوريا جريمة، وتصعيدٌ على لبنان تهديد، ومجازرُ في غزة تطهيرٌ عرقيٌّ صريح. لكنَّ هذه الضربات، رغم قسوتها، لم تُضعف إرادة الأمّة، بل أيقظتها من سباتها.. أيقظتْ فيها الذاكرةَ والكرامة.
وفي خضمِّ هذا الألم، تُطلُّ مبادرةُ الشيخ نعيم قاسم كنبضة أمل، كيدٍ ممدودةٍ للحوار، وكصرخةٍ في ظلامِ الانقسام: "كفانا تشرذمًا.. فعدوُّنا يقتلُنا واحدًا تلو الآخر". إنها دعوةٌ للوحدة ليست من منطلق القوة فحسب، بل من منطلق الإيمان بأنَّ هذه اللحظة التاريخية ليست مناسبةً للتفاوض فقط، بل هي اختبارٌ للضمير والإنسانية.
فهل نَتَلَقَّفُ هذه المبادرة؟ هل نقرأُ مشاهدَ الغزةَ كما هي: مرآةٌ لعذاباتنا جميعًا؟ هل نرى في ضربات قطر وسوريا ولبنان إنذارًا لا يُطاق؟
الآنَ أكثرَ من أي وقتٍ مضى، نحنُ جميعًا معنيون.. معنيون بأن نضع أيدينا بأيدي بعضنا، أن ننسى خلافاتنا الصغيرة في مواجهة الموت الكبير، وأن نصنع من دماء شهدائنا درعًا واحدًا، وكلمةً واحدةً، ومصيرًا واحدًا.
لقد حان الوقت.. الوقت لأن نكون أمَّةً واحدة.
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :