المنطقة الاقتصادية العازلة في الجنوب اللبناني: بين القانون الدولي والسيادة الوطنية وتأثيرها على المجتمع
الدكتورة رشا أبو حيدر
يشكّل الجنوب اللبناني مسرحًا تاريخيًا للصراع مع إسرائيل، حيث تعرضت قراه وبناه التحتية لدمار ممنهج خلال الحروب المتعاقبة، ولا سيما حرب تموز 2006، وصولًا إلى المواجهات المفتوحة بعد السابع من تشرين الأول 2023. وقد أدت هذه الاعتداءات إلى تهجير آلاف السكان وتدمير قطاعات زراعية وحيوية، ما جعل المناطق الحدودية واحدة من أكثر المناطق هشاشة اجتماعيًا واقتصاديًا في لبنان.
في هذا السياق، برزت تصريحات أميركية تُلمّح إلى إمكانية إقامة "منطقة اقتصادية حدودية" في الجنوب، باعتبارها وسيلة لإعادة الإعمار وتنشيط الاقتصاد، وفي الوقت نفسه لتأمين حدود إسرائيل عبر خلق واقع جديد على الأرض. ورغم الطابع الاقتصادي المعلن لهذه المبادرة، فإنها تثير تساؤلات جدّية حول السيادة الوطنية، ومدى توافقها مع قواعد القانون الدولي، فضلًا عن انعكاساتها المحتملة على المجتمع اللبناني.
أولًا: الإطار القانوني لفكرة "المنطقة الاقتصادية العازلة"
1. السيادة في القانون الدولي
يقرّ ميثاق الأمم المتحدة بمبدأ السيادة الكاملة للدول على أراضيها، ويعتبر أي مساس بها انتهاكًا لقاعدة أساسية من قواعد النظام الدولي. وبالتالي، فإن إنشاء "منطقة عازلة" أو "منطقة اقتصادية خاصة" بقرار خارجي أو بإشراف دولي دون موافقة صريحة من الدولة المعنية يُعدّ خرقًا لهذا المبدأ.
2.عدم مشروعية فرض مناطق عازلة خارج إطار مجلس الأمن
حتى في حالات النزاعات المسلحة، لا يُسمح بإنشاء مناطق عازلة إلا بقرار صادر عن مجلس الأمن الدولي أو ضمن اتفاق رضائي بين الأطراف. أما أن تطرح دولة ثالثة (كالولايات المتحدة) فكرة "منطقة اقتصادية عازلة" على أرض دولة ذات سيادة، فهذا يثير شبهة انتهاك مباشر للقانون الدولي.
3. مقارنات مع تجارب دولية
- قطاع غزة: فُرضت مناطق "عازلة" زراعية من قبل إسرائيل على حدود غزة، أدّت إلى خنق الاقتصاد المحلي وتحويل الأرض إلى أداة ابتزاز سياسي.
- قبرص: أنشأت الأمم المتحدة "منطقة عازلة" بعد النزاع التركي–اليوناني، لكنها تحولت إلى تقسيم واقعي دائم.
- كوسوفو: وجود مناطق خاصة تحت رعاية دولية أدى إلى تقليص السيادة الفعلية لصربيا.
ثانيًا: الأبعاد السياسية للمشروع الأميركي
1. الأهداف الإسرائيلية الكامنة
من منظور إسرائيل، إن إقامة "منطقة اقتصادية" في الجنوب اللبناني قد تحقق:
- إبعاد السكان اللبنانيين عن الحدود، وبالتالي تقليص الاحتكاك المباشر.
- خلق واقع أمني جديد يحاصر المقاومة جغرافيًا.
- فتح باب للتطبيع الاقتصادي غير المباشر مع البيئة الجنوبية.
2. دور الولايات المتحدة كوسيط غير محايد
الولايات المتحدة طرحت نفسها تاريخيًا كوسيط في ملفات الحدود البحرية والبرية. إلا أن انحيازها المعلن لأمن إسرائيل يجعل من أي مبادرة أميركية موضع شك. فكرة "المنطقة الاقتصادية" قد تُقدَّم كإعادة إعمار، لكنها عمليًا تمثّل أداة لفرض "حل أمني مقنّع".
3. الانقسام اللبناني الداخلي
ينقسم الداخل اللبناني إزاء هذه الفكرة بين:
- فريق يرى فيها فرصة لتنمية الجنوب واستقطاب الدعم الدولي.
- فريق آخر يعتبرها انتقاصًا من السيادة، ووسيلة لإعادة رسم حدود النفوذ الإسرائيلي والأميركي داخل لبنان.
ثالثًا: الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية
1. الواقع الحالي للقرى الحدودية
المجتمع الجنوبي يعاني من:
- تهجير متكرر نتيجة الحروب.
- بطالة مرتفعة بسبب تعطيل الزراعة والصناعة المحلية.
- نقص في البنى التحتية والخدمات الأساسية.
2. المغريات الاقتصادية للمشروع
فكرة "منطقة اقتصادية" قد تُسوّق كحل عبر:
- توفير فرص عمل في مشاريع إنمائية.
- إعادة إعمار القرى المدمرة بتمويل خارجي.
- تشجيع استثمارات زراعية وصناعية جديدة.
3. المخاطر الكامنة
- التبعية الاقتصادية: ربط التنمية بشروط خارجية.
-التطبيع الناعم: إدخال إسرائيل كشريك اقتصادي غير مباشر.
-إعادة رسم الهوية الاجتماعية: تحويل المجتمع الحدودي من بيئة مقاومة إلى بيئة "مؤدلجة اقتصاديًا".
رابعًا: مقاربة بديلة – الإعمار الوطني بدل المنطقة العازلة
الحل الحقيقي يكمن في:
- وضع خطة وطنية لإعادة إعمار الجنوب بإشراف الدولة اللبنانية.
- الاستفادة من الدعم الدولي في إطار شفاف يخضع للقانون اللبناني.
- تعزيز الاقتصاد المحلي) زراعة، طاقة متجددة، مشاريع تنموية (دون المساس بالسيادة.
إن فكرة "المنطقة الاقتصادية العازلة" المطروحة أميركيًا في الجنوب اللبناني، رغم بريقها التنموي، تخفي في جوهرها محاولة لإعادة صياغة الحدود وفق مقاربة أمنية تخدم إسرائيل. من منظور القانون الدولي، لا يحق لأي طرف خارجي فرض هكذا واقع على لبنان دون رضاه، وإلا كان ذلك انتهاكًا لسيادته. أما من منظور اجتماعي، فإن تحويل معاناة القرى الجنوبية إلى ورقة مساومة اقتصادية يشكل خطرًا على الهوية الوطنية وعلى عقد العيش المشترك.
يبقى التحدي الأكبر أمام لبنان: كيف يحوّل دمار الحرب إلى مشروع إعمار وطني مستقل، وكيف يحمي حدوده ليس فقط بالسلاح، بل أيضًا بتنمية عادلة تجعل من الجنوب رافعة للسيادة لا منطقة عازلة مفرغة من معناها.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)
:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي