«يأتي على رأس كل مئة عام مَن يُجدّد».
هناك إمكانية كبيرة ليفكر المرء بمدى تشابه تجربة شارلي شابلن وزياد الرحباني. حتى إنّ هناك رابطاً قدرياً بين الاثنين يكاد يجعل مسيرتهما الفكرية والفنية كأنها واحدة أو امتداد لها.
ولد شارلي شابلن الذي أسمّيه «المعلم الأكبر» عام 1889 في بيئة فقيرة من أب وأم فنانين، فأبوه كان مغنياً شعبياً وأمّه كانت موسيقية ولكن حياتها المهنية كانت قصيرة وفاشلة.
ساقته الأقدار إلى أن يذهب إلى البلاد الجديدة أميركا، حيث تعرّف إلى السينما، تلك الساحرة العجيبة. وسرعان ما امتشقها سلاحاً، فكتب، وأخرج، وألّف موسيقى أفلامه، وضخ في أفلامه كل ما يريد أن يقوله من دون أن يتكلم ولو بكلمة واحدة. وقد اخترع شخصية «الصعلوك» التي تكررت في كل أفلامه لاحقاً، إلى أن تخلّى عنها ابتداء من فيلم «السيد فوردو» (1947) و فيلم «الأضواء» (1952).
أسّس شابلن شركته الخاصة كي يحقّق استقلاليته ولا يرتهن لأي إنتاج. كان شاهداً على الثورة الصناعية التي التهمت الإنسان واستعبدته (فيلم «الأزمنة الحديثة» (1936). وبدأ شيئاً فشيئاً ينخرط في الشؤون السياسية، فأنتج فيلم «الديكتاتور العظيم» (1938). وأصبح يحمل هموم الإنسان وآلامه من سطوة الرأسمال المتوحش، ويحمل معاناة الشعوب من الديكتاتوريات الفاشية.
اتُّهم بحمله أفكاراً شيوعية كانت سبباً في المضايقات العديدة التي تعرّض لها. كما اتُّهم بقضايا عدة منها تهمة الزواج من قاصر. كانت علاقته بالنساء معقدة وغير مستقرة، ما اضطره إلى المغادرة إلى سويسرا هرباً من نظام الولايات المتحدة الأميركية. قال: «لن أعود إلى أميركا ولو سيظهر فيها يسوع المسيح».
انحاز زياد إلى إنسانيته، فالتصق بالناس الفقراء وتكلّم باسمهم
أثّر شابلن بشكل كبير في أجيال عدة في عصره، وخلق مفهوماً جديداً في اللغة السينمائية كرّسته معلّماً أكبر في عالم الفن.
وتمرّ السنون، ويولد بعد قرابة 70 عاماً من بداية أعماله «مُجدد» في القسم الآخر من الكوكب، تشبه مسيرته الفنية والفكرية كثيراً مسيرة شابلن. إنّه زياد الرحباني الذي ولد نجمةً مضيئة في هذا الشرق.
ولد المعلم الأكبر زياد الرحباني في هذا الجزء من الكوكب، من أبوين شكّلا علامة فارقة في الفن. برزت موهبته في سنّ الـ 14 سنة وانفجرت في عمر الـ 17 بلحن «سألوني الناس» عام 1973.
بدأ مشواره المسرحي كتابة وإخراجاً وتمثيلاً وتلحيناً وكتابة لكلمات الأغاني عام 1971، ليحدث الثورة الجديدة في الأغنية اللبنانية، ويخرج من عباءة الأخوين الرحباني الموسيقية، بداية في مسرحية «سهرية».
خرج من عباءتهم الدرامية المسرحية لاحقاً عام 1974 بمسرحية «نزل السرور». بدا تمرّده واضحاً في هذه المسرحية عندما نزل من لبنان الحلم، الوهم في مسرحيات الرحابنة، إلى لبنان الحقيقي المنقسم على نفسه، الطائفي، الطبقي، وتنبّأ بالحرب الأهلية التي ستندلع في العام التالي أي 1975.
انحاز زياد الرحباني إلى إنسانيته، فالتصق بالناس الفقراء وتكلّم باسمهم. ثار على النظام الطائفي المريض وحَلِم بالعلمانية. حاول تنبيه الناس إلى علّة هذا النظام، وإلى المؤامرات الإمبريالية، فكانت مسرحية «فيلم أميركي طويل» عام 1980.
لم يكتف زياد بالفن بل انخرط في العمل السياسي المباشر، فجاهر بانتسابه إلى الحزب الشيوعي. إلا أنّ زياد كان نقطة فارقة في الوطن العربي، فأصبح كلامه لغةً جديدة تضاف إلى المفردات المحكية، فأُطلق عليها «لغة زياد الرحباني» وتأثّرت بها أجيال عدة ومتتالية. إلا أنّه لم ينجح في تكوين وعي سياسي جمعي يُخرج الناس من طائفيتهم المتجذرة. لم ينجح زياد في تشكيل جبهة سياسية كانت ستُحدث فرقاً كبيراً في الحياة اللبنانية وفي نظامها العفن.
حمل زياد في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو» (1978) همّ الطبقة الكادحة المسحوقة وجشع الرأسمال المتوحش. ثم قام من بعدها بتهشيم لبنان الكذبة، الذي رسمه الأخوان رحباني، فكتب مسرحية «شي فاشل» عام 1983 وحطّم هذا اللبنان.
إلا أنّ زياد ذهب بعيداً في الموسيقى، فأصبح مدرسةً منفصلة وعلامةً تاريخية. «ما قبل زياد وما بعد زياد» تماماً مثل ما كان سيد درويش وما كان عليه الأخوان الرحباني موسيقياً.
بعد وفاة والده، انتقل بأمّه السيدة فيروز إلى عالم آخر. عالمه هو، فحلّقا معاً بعيداً، وقدمها برؤية جديدة.
عجيب هذا التشابه حد التطابق بين هذين المعلّمين اللذين فصل بينهما زمن قدره مئة عام، فصدقت نظرية التجديد كل مئة عام.
يبدو أنّ علينا الآن الانتظار مئة عام أخرى ليأتي مَن يجدّد بعد زياد الرحباني، ليقوم غيرنا بالمقارنة مثلما نقارن نحن الآن، فيصبح شابلن زياد الغرب، ويصبح زياد شابلن الشرق. مُعلّمان كبيران!
* ممثل لبناني
نسخ الرابط :